“أنت لست ندّاً لي ولست بمستواي، وصراخك في العراق ليس مهماً بالنسبة لنا على الإطلاق، فنحن سنفعل ما نشاء، وعليك أن تعلم ذلك، وأن تلزم حدّك أولاً”، بهذه الكلمات رد الرئيس التركي أردوغان، على تصريحات رئيس الوزراء العراقي العبادي، التي طالب فيها تركيا بسحب قواتها من قاعدة “بعشيقة” العسكرية شمال العراق، والتي اعتبر أنها توجد بشكل غير شرعي، في حين أن تركيا تؤكد أنها موجودة بدعوة من العبادي نفسه، إضافة لدعوة أخرى من حليفها الكردي مسعود بارزاني.
حالة التشنج السياسي بين كل من تركيا وحكومة العبادي لها ما يبررها، وقد تصاعدت بالتوازي مع الحديث عن قرب انطلاق معركة الموصل ضد تنظيم الدولة الإسلامية؛ حيث تصر تركيا على المشاركة في المعركة، مؤكدة أنها لن تسمح للجماعات الإرهابية ممثلة بالحشد الشيعي وحزب العمال الكردستاني بالاستفراد بالمدينة السنية، التي تقطنها أقلية تركمانية.
لكن ما الذي دفع الرئيس التركي للغضب والتخلي عن الدبلوماسية، فخاطب رئيس الوزراء العراقي بهذه الحدة؟
تركيا العائدة إلى الساحة الإقليمية والدولية بقوة وزخم كبيرين، خصوصاً بعد ترميم علاقاتها مع روسيا، تدرك جيداً أن عليها استثمار الظروف الإيجابية التي هيأها فشل الانقلاب العسكري، إضافة للتقدم الذي حققته عملية درع الفرات، وهي ستقاوم من أجل فرض حضورها الإقليمي ليس فقط في سوريا والعراق، بل وفي منطقة الخليج العربي، التي وعلى ما يبدو أنها باتت جاهزة للمضي في تحالف استراتيجي لا بد منه مع تركيا.
ليست تصريحات العبادي هي ما أغضب أردوغان، فهو على ثقة أن العبادي لا يملك من أمره شيئاً، وأنه ليس سوى واجهة لميليشيات شيعية تأتمر بأوامر الحرس الثوري الإيراني، المهيمن الفعلي على القرار العراقي، إضافة إلى وجود التحالف الدولي الذي ينشئ القواعد العسكرية ويستخدم المجال الجوي العراقي، ويعمل باستقلالية تامة عن الحكومة العراقية، وبالتالي فإن الرئيس التركي لم يكن مجبراً للرد على تصريحات العبادي، لكنه وجدها فرصة لتوجيه رسائله في أكثر من اتجاه، خصوصاً أميركا وإيران، مؤكداً رفضه مشاركة الحشد في معركة الموصل، وعزمه المضي قدماً في مشروعه الخاص بسوريا والعراق.
تتكئُ الولايات المتحدة في تحركها العسكري الإقليمي على أدوات محلية أثبتت نجاعتها، بدعم جوي ولوجيستي منها، وهو ما وفر عليها فاتورة كبيرة من دماء الأميركيين، ومن هنا فإنها وعلى ما يبدو قررت المضي في تحالفها مع الميليشيات الكردية والشيعية، واستخدامهما كرأس حربة ضد الحركات الجهادية السنية، بل والضغط على دول الإقليم، وخصوصاً تركيا.
الخارجية الأميركية وفي معرض ردها على السجال التركي – العراقي، أظهرت انحيازاً أميركياً لصف العبادي، وذلك بقولها: “إن القوى العسكرية الأجنبية في العراق يجب أن تكون هناك بموافقة حكومة بغداد وتحت مظلة التحالف المناهض لتنظيم الدولة الإسلامية، ويجب على كل الأطراف التنسيق عن كثب خلال الأيام والأسابيع القادمة، لضمان وحدة الجهود الرامية لهزيمة التنظيم وتحقيق الأمن الدائم للشعب العراقي”.
وهو الموقف الذي أكده المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع الأميركية، جيف ديفيس.
الموقف الأميركي هذا يأتي كرد مباشر على الرئيس التركي، الذي غمز للولايات المتحدة بقوله: “بعض الدول تأتي من بُعد آلاف الكيلومترات للقيام بعمليات في أفغانستان وغيرها من المناطق، بدعوى تشكيلها تهديداً لها، بينما يقال لتركيا التي لها حدود بطول 911 كم مع سوريا و350 كم مع العراق، إنه لا يمكنها التدخل لمواجهة الخطر هناك، نحن لا نقبل أبداً بهذا المنطق الأعوج”.
الموقف الإيراني من السجال الحاصل على الساحة ما زال غامضاً، لكنه ليس بعيداً عن العنتريات والتهديدات التي يطلقها حشدها الشيعي ضد تركيا وتوعدهم لها، وهي على ما يبدو تمارس خبثها السياسي المعهود، ففضلت التريث والإمساك بالعصا من المنتصف، بانتظار ما ستؤول إليه الأحداث، وهي تدرك أنه ليس من مصلحتها الدخول في مواجهة مع تركيا أقله في هذه المرحلة، التي يجري فيها إعادة صياغة التحالفات الدولية والإقليمية، خصوصاً لجهة التطور الحاصل في العلاقات الروسية – التركية من جهة، والتركية – العربية من جهة أخرى.
الغضب السعودي من السيسي
كان من المفترض أن تمثل زيارة الملك سلمان إلى مصر، مطلع شهر نيسان/أبريل من هذا العام، نقلة نوعية في علاقات البلدين، اللذين وقعا على الكثير من الاتفاقات الاستثمارية السعودية بقيمة 20 مليار دولار، إضافة لاتفاقية مدتها خمس سنين، بقيمة 23 مليار دولار تزود السعودية بموجبها مصر بما مقداره 40% من احتياجاتها من المشتقات البترولية، ما يعني توفير مصر لمئات الملايين من الدولارات.
السعودية أَمِلت حينها في استقطاب دعم مصري، خصوصاً في ما يتعلق بحربها ضد الحوثي وصالح، لكنها أصيبت بخيبة أمل كبيرة، تُوّجت بتصويت مصر لصالح القرار الروسي في مجلس الأمن قبل أيام، هذا التصويت الذي لم يكن هو السبب الرئيسي للقرار السعودي، لكنه أصاب السعودية باليأس من موقف مصري مساند لها، فكان القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقول المثل.
الدعم الخليجي “السعودية – الإمارات – الكويت” لمصر كان سخياً جداً، لكنه قوبل بجحود من السيسي، وتمثل بعدة أمور أهمها: عدم تقديمه دعماً للتحالف العربي في اليمن، تقارب مصري – إيراني، دعم مصري لنظام الأسد، مع العلم أن نظام السيسي لم يتوقف عن استضافة مسؤولين من حركتي حزب الله اللبنانية، وأنصار الله اليمنية، وكلاهما أذرعٌ إيرانية في المنطقة، فما الذي يجبر السعودية بعد هذا على تحمل عبء نظام كل ما فعله هو وقوفه إلى جانب أعدائها؟
لهذا فإن قرار شركة أرامكو السعودية وقف توريد المشتقات البترولية ابتداء من مطلع شهر/أكتوبر تشرين الأول، يعتبر قراراً لا يمكن فصله بحال عن مجمل التطورات على الساحة، بدءاً من العراق، وصولاً إلى اليمن، مروراً بسوريا ولبنان، وحتى ليبيا.
لكن ما الذي حدث ودفع بالسعودية لاتخاذ قرار كهذا كان مفاجئاً للجميع؟ وهل هو قرار نهائي لا رجعة فيه أم أنه تأديبي مؤقت؟
السعودية ومعها باقي دول الخليج مستهدفة إيرانياً، وباتت مستهدفة أميركياً، وذلك من خلال قانون “جاستا” الذي قد يؤدي لتجميد أموالها في أميركا، والمقدرة بأكثر من 1200 مليار دولار.
“أرامكو” توقع تفاهمات مع 18 شركة تركية، واجتماع تركي – خليجي في السعودية، جميعها مؤشرات على عودة تركية قوية إلى الساحة، وعلى حساب مصر التي جعل منها السيسي دولة فاشلة بكل المقاييس، فهل نحن أمام تحالف عربي تركي يعيد إحياء مشروع التحالف العربي – الإسلامي؟ وهل يمكن أن يكون لروسيا دور فيه؟
أميركا تبدو منزعجة جداً من التقارب التركي – الروسي، الذي نقل علاقات البلدين من مواجهة كانت شبه محتومة، لتعاون ثنائي تمثل في رفع الحظر الروسي عن المنتجات الزراعية التركية، واستئناف تنفيذ مشاريع بناء محطات نووية لتوليد الكهرباء في تركيا، إضافة لمشروع نقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر المشروع المسمى “ستريم”.
الأهم من هذا وذاك هو عودة الزخم القوي إلى العلاقات التركية – الروسية، وما سرب عن صفقات أسلحة، وبناء منظومة درع صاروخي روسي لتركيا، فهل نحن مقبلون على طلاق بين تركيا والغرب، وزواج تركي مع روسيا؟ ربما ولكن ليس قبل انقضاء العدة؟!
خليل مقداد
كاتب و محلل سياسي