سليمان الحاج ابراهيم / الدوحة
ملف الصحافي السعودي جمال خاشقجي الذي تمت تصفيته في قنصلية بلاده في اسطنبول، بتوجيهات مباشرة من أعلى هرم السلطة في البلاد، سيظل وجعاً مفتوحاً لحاكم البلد الفعلي الأمير محمد بن سلمان، ولن تفلح أبداً محاولاته التنصل من المسؤولية، وبذل المزيد من الجهود لإبعاد الأنظار عنه، ولن يكون بوسعه طي القضية وغمرها في رمال الصحراء.
تاريخ الثلاثاء 2 تشرين الأول/أكتوبر 2018 سيظل ذكرى عالقة في الأذهان، ومحطة مفصلية زعزعت عرش آل سعود، من لحظة اتخاذ قرار تصفية مواطن في قنصلية بلاده، من دون ذنب اقترفه سوى أنه نصح من بيده مقاليد الحكم وأحب وطنه بإخلاص.
الصحافي والكاتب خاشقجي زار القنصلية للحصول على وثيقة شخصية، ولم يغادرها على رجليه، بل في حقائب مقطعاً أجزاء مثل فيلم رعب هوليوودي.
كيف تمت العملية؟ ولماذا؟ ومن يقف خلفها؟ وما نتج عنها؟
سنكتشف إجابات هذه الأسئلة، ونجمع تفاصيل القصة، ونستعيد سوية مشهد الحادث باستعراض هذه الحقائق والمعلومات.
ما قبل القنصلية
القصة لم تبدأ في اسطنبول، والخطة سبقتها خطوات تعود لسنة كاملة سبقت الحادث، بدأت تحديداً في واشنطن، حيث كان يقيم الراحل لفترات، ويتعامل مع صحف أمريكية وقنوات، يحلل فيها وضع بلاده ويتحدث عن شؤون المنطقة.
لفترة طويلة ظل نجل الملك سلمان وشقيق ولي العهد، السفير السعودي لدى واشنطن الأمير خالد بن سلمان، يقود اتصالات مع المستشار في الديوان سعود القحطاني، لاستمالة خاشقجي وإقناعه بالعودة طوعاً إلى السعودية.
تتضح تلك المحاولات على كتابات الراحل، الذي خفف أحياناً نبرة صوته، من دون تراجع عن مذهبه في النقد، لكنه لم يستأنس كثيراً بالخطوة ولم يرضخ للإغراءات، ولا الوعود، وظل مرتاباً من العرض، لكنه لم يقطع اتصالاته مع عدد من المسؤولين.
أدرك خاشقجي أن القيادة السعودية الجديدة بإمرة ولي العهد، لا يؤتمن جانبها، وهو ما أسر به لمقربين منه، في أحاديث خاصة، وكان ينظر لما خلف المشهد، مع توالي الأنباء عن اعتقال عدد من الشخصيات، والتنكيل بمفكرين ودعاة وكتاب رأي.
لم يكن في وسع السفير السعودي في الولايات المتحدة إنكار لقائه بالصحافي، ولا الجلسة التي جمعتهما، وادعى أن ذلك تم بناء على العلاقة القديمة التي تجمعهما، لكنه لم يعترف بصحة الأنباء المتداولة عن محاولات استدراجه للعودة للرياض.
الخطة ب (التنفيذ في اسطنبول)
تأكد للسلطات السعودية أن خطة استعادة الكاتب الصحافي بشكل ودي وإرجاعه على متن رحلة طيران على الدرجة الأولى معززاً مثلما كان يقال له، باءت بالفشل، ولن تتحقق بعدما استشعر الراحل عدم صدقية مضيفيه، ومسؤوليه، لكنه بالمقابل لم يستشعر نواياهم الحقيقية.
خطط مستشارو ولي العهد السعودي للمرحلة الثانية من الخطة، وهي إعادته قسراً، مهما كان الثمن، ومن دون أي تراجع عن تنفيذ الطلب الذي وجه لهم بجلب الرجل مع التصرف وفق ما يرونه مناسباً.
سريعاً، باشر الفريق المقرب من ولي السعودي محمد بن سلمان استعراض تفاصيل الخطة الثانية، وهي استدراجه هذه المرة للقنصلية السعودية في اسطنبول، ومن هناك يمضي رجالات ولي العهد في خطواتهم وهي تخديره ثم ترحيله قسراً.
اتصل السفير السعودي الأمير خالد بن سلمان بالراحل، وأخبره أنه يمكنه الحصول على وثيقة الطلاق لاستكمال إجراءات زواجه من مواطنة تركية، من اسطنبول وطمأنه أن الأوراق ستكون جاهزة.
زار جمال خاشقجي مبنى القنصلية في أحد شوارع اسطنبول الراقية، وتم الاعتذار له أن الوثيقة ليست جاهزة بعد، وطلب منه العودة بعد أيام.
وقت كان كافياً للفريق السعودي ليغادر الرياض، نحو تركيا، ويمضي في تنفيذ ما طلب منه، وهي العودة بخاشقجي إلى البلاد.
وصل الفريق السعودي على متن عدد من الرحلات الجوية، قادمة من دبي والقاهرة، مدججين بعدتهم نحو مقر العملية، القنصلية السعودية في اسطنبول.
كان من المخطط حسب التسريبات الجديدة للصحافة التركية، وفق معلومات استخباراتية حصلت عليها، أن يتم اختطاف جمال خاشقجي من القنصلية، ويتم تخديره لينقل في شاحنة دبلوماسية إلى فيلا يملكها رجل أعمال سعودي في منطقة “يالوفا”.
هذه الخطة لم تنفذ، لأن المسؤول عن التخدير حقن الضحية بجرعة قوية، من دون الأخذ بعين الاعتبار أنه يعاني من أمراض، وجسده لن يتحمل الأمر.
حصلت لحظة ارتباك بعد حدوث الأمر، وتم الشروع في تنفيذ الشق الثاني من الخطة ب، وهو تصفية خاشقجي وتحليل جسده وطمر الأدلة، حتى لا يصل أي كان، لأي أثر.
الفريق السعودي المكلف بالعملية اتضح جلياً كيف أنه لم يكن متأكداً من خطته، ولم يدرس بدقة كافة تفاصيلها، ولم يأخذ بعين الاعتبار حالة الطوارئ، وما يعكس أنه كان في حال توتر، لتنفيذ توجيهات صدرت من قيادة يعرف جيداً مزاجها، وكيف تتعامل مع أي طلب يصدر.
النقطة الفعلية التي لم تكن في الحسبان أن جمال خاشقجي سيكون برفقة خطيبته، ويوجه لها تعليمات بضرورة الاتصال بمستشار الرئيس التركي وبعض المعارف في حال حدث له مكروه.
هذا التفصيل جعل قضية الصحافي السعودي تخرج للعلن وتفتح أنظار العالم، وعدسات كاميرات وسائل الإعلام الدولية نحو مبنى القنصلية، ويفضح السر وتنكشف العملية.
حاولت السعودية النأي بنفسها عن الأمر، وادعت أن الراحل غادر القنصلية، وهو الاستعراض الذي قام به القنصل السعودي السابق، وشاهد العالم مسرحيته وهو يفتح أدرج المكاتب، وخزانات المبنى.
لاحقاً تم تقديم تصوير يدعي أن جمال خاشقجي غادر فعلاً القنصلية، وهي لقطات لرجل ارتدى الملابس نفسها، ولم تدرك الرياض أنها تلعب ورقة خاسرة، ولم تضع في حسبانها أن الطرف التركي، يملك إثباتات وأدلة دامغة تدحض تلك الرواية المهلهلة.
لجأت لاحقاً، إلى اتهام أطراف أخرى بفبركة العملية، والادعاء أنها تتعرض لمكيدة من قبل خصومها، وهو ما روّج الإعلام الموالي لها، ونفى تماماً أي صلة للرياض بالعملية.
هذا النفي، لجأ إليه أيضاً، ولي العهد السعودي الذي ادعى في مقابلة تلفزيونية مع قناة “بلومبرغ” أن خاشقجي غادر فعلاً مقر القنصلية.
تسريب الأتراك لبعض الحقائق التي كانت في حوزتهم بشكل مدروس وبقدر معلوم، عرى صناع القرار في الرياض، ووجدوا أنفسهم أمام ورطة عويصة، وأزمة لم يقدروا تبعاتها.
إنكار ثم اعتراف
بعد تنامي الضغط الدولي، اعترفت السعودية بأن الضحية قتل في شجار، ثم تغيرت الرواية الرسمية واعترفت بأن الفريق الأمني السعودي الذي قتله خطط مسبقاً للجريمة.
وحسب تقرير جديد تم تسريبه، فإن أحمد عسيري نائب رئيس الاستخبارات السابق أسس ثلاث فرق: الأول للتخابر، والثاني للإقناع والتفاوض، والثالث للدعم اللوجستي، على أن يكون الجنرال منصور أبو حسين مسؤولا عنها جميعا.
لكن عسيري تنصل من مسؤولية القتل، وقال في إفادته إنه أصدر تعليماته لأبو حسين بإحضار خاشقجي للبلاد بالإقناع، ولم يطلب منه إحضاره بالقوة، في حين تناقضت هذه الشهادة مع إفادة أبو حسين نفسه، الذي قال إن عسيري طلب منه إحضار الصحافي حتى باللجوء إلى القوة.
حسب الإفادة السرية التي أدلى بها المتهم ماهر عبد العزيز المطرب، فإن الطبيب الشرعي صلاح محمد الطبيقي كان مسؤولا عن تقطيع جثمان خاشقجي، بغرض وضعه داخل خمس حقائب وإخراجها من القنصلية، بالإضافة إلى كون الطبيقي مسؤولا عن إخفاء آثار الجريمة بعد وقوعها.
تدويل القضية
بالرغم من محاولات بعض الأطراف تخفيف حدة الضغط على ولي العهد السعودي ومنحه هامش المناورة، لا تزال القضية محل متابعة دولية مع مطالبات بتدويلها لدفع السلطات السعودية قدماً نحو الاعتراف بمسؤولية حكامها مباشرة في الأمر.
تساءلت خطيبة الصحافي السعودي جمال خاشقجي، عن سبب عدم الكشف عن جثته بعد، ورأت أن ذلك يثير شكوكا حول كونه لا يزال حيا، كما طالبت الأمين العام للأمم المتحدة بتدويل التحقيق بالقضية كون أن التحقيق السعودي “فقد شرعيته”.
وفي ختام لقاء جمع السيناتورين الأمريكيين، انغوس كينغ وتود يونغ، بولي عهد المملكة العربية السعودية، الأمير محمد بن سلمان، تمت الإشارة إلى أن حاكم الرياض، يعلم أن لديه مشكلة، ويعلم أن عليه أن يكون أكثر انفتاحا ويجب أن يتحمل أشخاص المسؤولية، لأنه “يعلم ما هي التوقعات” في الكونغرس.
التوقعات في الكونغرس تعني أيضاً أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي بذل ما في وسعه لتخفيف الضغط على حليفه، سيتخذ ذلك مطية لمزيد من الابتزاز للسعودية، وهو يحسب هذه الخطوات بمنطق تجاري، وما يمكن أن يجنيه من ذلك.
تركيا: القضية لن تسقط بالتقادم
السلطات التركية ظلت متمسكة بموقفها وهو تحمل الحاكم السعودي تبعات قرار تصفية مواطنه وعدم إغلاق الملف قبل اتضاح الحقيقة كاملة.
وأكد الرئيس التركي، رجب طيب اردوغان، على أن بلاده لن تسمح بما وصفه بـ”التستر” على قضية مقتل الإعلامي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول، مطلع تشرين الأول/أكتوبر/ الماضي.
فضيحة القرن
وجدت السلطات السعودية نفسها في مأزق، والتف حبل القضية على ولي العهد السعودي الذي أدرك أنه فعلياً في مهب عاصفة قوية لم يقدرها جيداً، وكل خططه بالاستئثار بالحكم في بلاده وتسويق نفسه رجل إصلاحات تتلاشى.
كان عليه اتخاذ قرار سريع، والتخلص من رجالات كانوا الأقرب إليه حتى يبتعد عن العاصفة، ويتجاوز تداعياتها ويسعى جاهداً للخروج من دوامة الفضيحة المدوية.
وسعى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لغلق ملف الصحافي الراحل جمال خاشقجي بأسرع ما يمكن، وهو ما دعاه لإعلان مسؤوليته غير المباشرة عن الفضيحة في آخر تصريح تلفزيوني في الولايات المتحدة التي يزورها لامتصاص غضب الأمريكان.
بن سلمان يسعى لطي ملف اغتيال خاشقجي عبر تسريع محاكمة منفذي الجريمة، ودفع ورثة الصحافي الراحل لقبول الدية، مع تسوية مالية تتفق عليها أطراف القضية، وبالتالي التخلي عن حقهم في القصاص من القتلة.
لماذا؟
ظل تساؤل كبير يطرح نفسه بحدة بعد أن تأكد المجتمع الدولي من حيثيات القضية ومن كان وراءها فعلاً لماذا تم التخطيط لتصفية جمال خاشقحي وما هي الدوافع الكامنة وراء المخطط؟
إذا عدنا إلى أرشيف ما كان يكتبه الراحل جمال خاشقجي، لن يجد المتابع والمحلل أي إثبات يشرح ويوضح سبب لجوء السلطات السعودية لقرار تصفيته، أو حتى احتجازه.
كان يمدح وينقد، يعترض ويوافق، ويؤيد بعض الإصلاحات التي يقوم بها ولي العهد محمد بن سلمان، ويعارض بعضها أيضاً، ولم يكن راديكالياً ولا جذرياً، ولم يطالب بإسقاط حكم العائلة السعودية للبلاد كما يفعل غيره من المعارضين في الخارج حسب شهادات أصدقاء له.
إضافة لذلك كان خاشقجي يتحاشى وصفه بـ “المعارض السعودي” حسب الصحافي ديفيد هيرست الذي وصف نفسه بصديقه، وأضاف أن خاشقجي “اعتبر نفسه ملكياً، ابناً للمؤسسة، وصحافياً مخضرماً في السياسة الخارجية، وكان لأمدٍ طويل داخل دائرة الديوان الملكي التي يكتنفها الغموض. وسافَرَ معهم في مناسباتٍ سابقة”.
ولم يشكك خاشقجي في شرعية الملكية السعودية، ولا قواعد تداول الحكم فيها، وكان مؤيداً للملك سلمان نفسه بعد توليه مقاليد الحكم.
معروف بكونه صاحب علاقات متوازنة مع المعارضين الإسلاميين والليبراليين على حد سواء في السعودية وخارجها، وله حضور قوي في قضايا إقليمية مهمة مثل سوريا ومصر واليمن، والملف الإيراني.
يتمتع بعلاقات واسعة أيضاً مع دوائر العائلة السعودية الحاكمة وكان يُقدم باعتباره صحافياً سعودياً مقرباً من القصر الملكي الحاكم في البلاد.
وعمل خاشقجي منذ 2004 مستشاراً إعلامياً للأمير تركي الفيصل – المدير العام للاستخبارات العامة السعودية سابقاً- والسفير السعودي السابق في لندن، ثم الولايات المتحدة الأمريكية.
تاريخ حافل بالاغتيالات والتصفيات
المملكة العربية السعودية التي اتخذ قادتها قرار تصفية الكاتب الصحافي جمال خاشقجي، سجلها حافل بالعديد من التجارب السابقة، ومحاولات تصفية أي معارض أو منتقد لسياساتهم.
ولا يزال العالم يتذكر جيداً الحوادث السابقة التي تم تنفيذها في عدد من العواصم مثل بيروت مع المعارض الراحل ناصر السعيد الذي تم اختطافه من قبل عملاء سعوديين في بيروت عام 1979 وتم إلقاؤه من طائرة في الجو.
ليتم لاحقاً استهداف عدد من المعارضين اختطافاً واغتيالاً.