عبد الحفيظ بن جلولي / كاتب جزائري
يمثل التحوّل في مسار الأشخاص مَعلما جوهريا، يحيل إلى البدايات ودورها في العودة إلى منصة الهوية، بحيث يظل الأثر الذي يحفره المجتمع في وعي الإنسان كـ»هامش يقظ» بتعبير الخطيبي، يساهم في أوبة الإنسان إلى ذاته بعد غربة وجودية مكثفة بالأسئلة حول جدوى «مصادر الذات»، ذلك ما قام به حسن أوريد، الدبلوماسي والناطق الرّسمي باسم القصر ومؤرّخ المملكة ووالي جهة مكناس، والأديب والرّوائي، الذي عاد بعد تيهٍ إلى مسقط ميلاده الفكري والتربوي والثقافي، حيث يقول في إهداء السيرة الرّوائية «رواء مكّة»: «إلى من إليهم أنا مدين بما كنته وما إليه صرت… إليهم الفضل على بدء النشأة تحت ظلال القرآن وهذا العود لنبع الإسلام».
الجهاز المفاهيمي وجدل العودة إلى المنابع:
يكتب حسن أوريد «رواء مكة»، باعتباره إنسانا عاد من أعماقه التي ضلّ فيها الطريق إلى «الأنا» الطفولية والبدايات في الكتاتيب وكلمات الجَدّة والأم وأشياء أخرى، فبصَر معلما كان يتهرّب دوما من ملاقاته إلى أن طرحته الأقدار في طريقه، «رَواءً ورُواءً»، أي عذبا ومنظرا حسنا، فتساءل: «هل قدّرت يوما أنني سوف أشدّ الرّحال إلى الديّار المقدّسة وقد نفرت عمّا كنت أراه رسيس تربية ومخلّفات ثقافة؟».
يمثّل هذا السّؤال أساسا فكريا يفسّر منطلقات أَوريد لقراءة ذاته حسب مستجدّات تحوّله الفكري والذاتي، فرحلته إلى الحجّ قلبت موازين وجدانه وجعلته في مواجهة «رسيس تربية ومخلّفات ثقافة»، وهو يعود إلى كل هذا بجهازه المفاهيمي الذي شكّله عبر تاريخية وجوده الفكري، وهو هنا لا ينفصل عن تجربة رجاء غارودي الذي فكك بنية الشيوعية والماركسية، انطلاقا من الجدل الذي يحكم مسارهما، وانتقل بجهازه الجدلي والمفاهيمي إلى دائرة الإسلام، ليكمل رحلته الفكرية ناطقا باسم الذات الحرّة الباحثة عن ذاتها، في خضم التلاطم الفكري الكوني، هذا التلاطم بين أمواج الحِجاج الذاتي في مواجهة أشياء العالم، هو ما ذكّى حرائق الحيرة عند أوريد، وجعل السّفر إلى الحج أوبة وليست استكشافا لطقوس، مصالحة وليست قطيعة، هذه الحيرة يفسّرها التردّد في الإقبال على الحج، فحين أُخبر بضياع أوراقه عند الجهة المضيفة، يقول: «ألم أعبّر حينها عن الارتياح.. وأداري في حقيقة الأمر فرحتي، أن أعفيت من الحج»، ثم لا يلبث أن يُخبَر بالعثور على الملف، فتكون بذلك أولى الإشارات الدالة على طريق العثور على البصمة الوجودية الخاصّة.
عراء الذات / القطيعة والتيه:
لا يخفي حسن أوريد شيئا في تجربته الموسومة بالرّحلة صوب الذات، عراءه الرّوحي والوجودي، يمثل الأساس في تجربته المريرة واللذيذة، المريرة بالتقلب في ثنايا الوجود وآفاق سقف الهداية، واللذيذة، إذ قادته إلى ضفاف الظل الذاتي الفكري والوجداني، وأحسبني في هذه القراءة في «رواء مكة» المكثفة بعراء الذات، أمام شخصية أدبية مغربية أخرى، محمد شكري، كتبت ذاتها بكل صدق، الحقيقة في الانكشاف في الرّواية السيرة «الخبز الحافي»، مع اختلاف الأسلوبين السياقيين، المسارين ومحطتي الوصول. تاه أخوه (أوريد) المصاب بالسكيزوفرينيا ليومين، ولم يجدوه، فيقف أوريد على لحظة البحث بدون جدوى: «توقّفت بالمسجد ما بين العشاءين عسى أن أجد لأخي أثرا أو أسمع خبرا.. وتملّيت بيت الله فلم أجد سوى الفراغ»، هي هذه اللحظات التي يرسم فيها الشك يقين البحث وإعادة النّظر في الثابت من الوعي والمعرفة والسلوك، بتحفيز السؤال بدون رسم الأفق الحاجب لحيرة العقل، يقف كما لو إنّه انفصل عن لحظة ليباشر أخرى: «كانت تلك اللحظة القطيعة مع كل موروثي، كما لو أنني أودّعه.. لم أشعر بشيء يملأ ذلك المكان أو يختصّه بشيء».
هل يمكن أن تستمر المسافة الوجودية بدون حيرة؟ هل يمكن أن نتجاوز جدار الأسئلة وممكنات الإحراج في عبورنا العارض على وجه الأرض؟
لماذا خصّ همسه الداخلي بمعاينة المسجد، هذا المكان الذي هو «بيت الله»؟ الصّراع الحاد في عمق الإنسان هو هذا الموقف الذي يجعله في مواجهة مع الرّوح مباشرة وتمثلاتها الوجودية، ففي الوجود الشخصي للكيان البشري هناك دوما حالة قرب من القوّة المطلقة التي يحتمي بها الضّعف الإنساني، تماما كما هي النتشوية الحائرة في «هكذا تكلم زرادشت»: «هذا القدّيس العجوز لم يسمع في غابه هنا بعد أنّ الله قد مات؟»، فهذا القدّيس لم يصعد الجبل سوى لإكمال ما قد يظن زرادشت، المغادر للجبل، أنّه تخلّص منه.
سؤال العقل والإيمان:
هل يمكن أن تستمر المسافة الوجودية بدون حيرة؟ هل يمكن أن نتجاوز جدار الأسئلة وممكنات الإحراج في عبورنا العارض على وجه الأرض؟ الكلمات والمعنى في سِفرِ «رواء مكة» تجعل القراءة كما رحلة على ظهر باخرة، وبأحلام السفر المعرّضة للانكسار، عبر هياج الأمواج واستبصار الشاطئ ومخيال الجزر السّاحرة، جميع تلك الهواجس تجعل القراءة غير مستكينة لظل سكينة، ونافرة من كل نداء للهدنة، لأنّ العنوان الموحي بالاتساق الحفي مع الذات والكون، تخرقه هواجس المفكر: «هل استكشاف بعد متعال في حياة الإنسان، أو في حياتي على الأقل، يفترض أن أبدأ من الحج؟»، لا يمكن أن نمرّر هذا السؤال بدون العودة إلى عتبة الإيضاح في بداية الكتاب، حيث يورد ما قاله العبدري الحيحي في «الرحلة»: «إنّها (الكعبة) دلالة تقوّي بصيرة المتبصّر، وتسدّد فكرة المتفكّر»، فالحجّ في رحلة استعادة «رسيس تربية» لم يكن دلالة روحية تستند إلى جملة معطيات فقهية تسدّد الشعيرة العبادية، بل كان تفجّرات وجدانية تساءل المعطى الإيماني في توهجاته التاريخية، فالكعبة كبناء، لا تمثل سوى الكينونة المادية لمسار عقدي، لكنّها كعلامة، ترسم الدلالة المتعالقة في إدراكها مع «بصيرة المتبصّر» ذلك العمق الذي تسكنه «فكرة المتفكّر» العالقة بين ضباب التيه ورشاد التسديد، وفي هذا المنعطف الحاسم الذي تركّزه متاهة الأسئلة، ينبثق عقل المفكر مرتاحا إلى مركزٍ ما في تيه الرّؤية: «ولكن أشياء أخذت تتغيّر في حياتي، وفي نظرتي إلى الأشياء والأشخاص.. أتملّى حولي ممّن يملأ قلوبهم الإيمان، فأعجب لسمتهم وسكينتهم».
تندرج هذه المرحلة بإحساس المريد، الصوفي الفقير إلى عطاءات ربّه، شعور في العمق بالتغيير، معالم حياتية أخذت تتحوّل فتجعل النظرة إلى الأشياء والأشخاص مختلفة عمّا كانت، ومناط التّغيير في هذه الحالة هو التواصل المضني مع ما يمكن أن يكون «الثابت» في واقع ذوات متناسقة ومتوافقة مع «أصالة المنهج والمبدأ»، ولهذا كان العامل الحاسم في التأمل هو «الإيمان» الذي يملأ القلب، بما يكشف عن «خواء» لدى الذات المتأملة، وهو العنصر الجوهري الذي يؤسّس للرؤية إلى الأشياء، إذ نحن نبحث عما ليس في قبضة كينونتنا، ولهذا تكون لحظة العثور هي لحظة إعجاب، حسن أوريد يحدّد عناصر رحلته الباحث فيها عن «رسيس تربية»: «التغيير، التأمل والإعجاب»، تلك العناصر التي تستبصر إمكانية محايثته العقل لمقام آخر: «هل يمكن أن تصرف الحياة بالعقل وحده؟»، وهو سؤال أبي حامد الغزالي ذاته، وتأكيده على إنّ الأقيسة العقلية ليست وحدها الموصلة إلى الحقيقة، وتكلّم عن الذوق الباطني، وحسن أوريد لا يقصي البعد الصوفي من مسار تجربته الوجودية.
تنسكب الكتابة من روح حسن أوريد كما العطش في صحراء تستعيد ألوان واحاتها، فتخضرّ شيئا فشيئا معشِّقة صفار الرّمال بنغزات سعف النّخيل، تلك هي انتباهات الأسئلة في «السيرة الرّوائية» «رواء مكة». تهطل الكلمات الباحثة عن سيرة يمكن أن تشكل نقطة ذات جدوى في محيط شاسع وعميق من الضرب خبط العشواء في بساط الحياة. تنبثق خطوات الذات مثقلة بعبء الجسد، تسكر «الأنا» ومحيطها في وهاد بعيدة. الأفكار والصّور والمشاعر والكتب التي مثلت حلقة الوصل بين أوريد وصورته، نشأت بعيدا عن دفء البيت في الرّيف والمناطق النّائية، تركها لانتظار قاتل حتى قارب مشارف الكعبة، التي تمثل الدلالة وبصيرة المتبصّر وفكرة المتفكر.