أنطاكيا – توالت التصريحات الأمريكية في الساعات الاخيرة حول سوريا، وجاءت لتربك المشهد في محاولة لإعاقة العملية التركية على ما يبدو، بدءاً من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه الذي عاد ليعلن أن بلاده لن تخون الأكراد، وأن «تركيا تدرك رغم أنه لم يتبق لدينا سوى 50 جنديًا في هذا الجزء من سوريا، وتمت إزالتهم، فإن أي قتال غير مبرر أو غير ضروري من جانب تركيا، سيكون مدمرًا لاقتصادهم ولعملتهم الهشة للغاية. نحن نساعد الأكراد مالياً وبالأسلحة!»
مسؤول أمريكي رفيع لم يكشف عن اسمه، صرح للصحافيين ولوكالة رويترز في واشنطن، بان ما حدث هو «اعادة انتشار» وليس انسحابا ، قائلا » ما اعلننا عنه ليس بداية لسحب القوات بل تحريك لمواقع 50 جنديا اميركيا فقط داخل سورية، وان حدث تصعيد فمثلما قال الرئيس ترمب «سيدمر الاقتصاد التركي».
رفض الخضوع
هذا التضارب في التصريحات، أربك المشهد، وكما يؤكد الصحفي الامريكي ريتشارد أنجل من قناة «ام سي ان بي سي»، المتواجد في اسطنبول لمتابعة التطورات، ان اتصالاته مع المسؤولين الأمريكيين أظهرت ان الوضع ما زال غامضاً بخصوص الموقف النهائي من العملية. ومع حملة الانتقادات التي تعرض لها قرار ترامب، ظهرت أصوات لشخصيات أمريكية رفيعة، مثل مستشارة الأمن القومي السابقة سوزان رايس، تصف في مقابلة تلفزيونية العملية التركية المرتقبة بالذئب الجائع: «تركيا كالذئب الجائع تلتهم الشاة».
لكن البعض أيد قراره أيضاً مثل السيناتور راند باول: الذي قال «أقف مع السيد ترمب، هو يفي بوعوده بوقف حروبنا التي لا نهاية لها. ولدينا سياسة خارجية حقيقية لـ «أمريكا أولاً».
نجاح تكتيكي لأنقرة… فهل ستخطو الخطوة التالية؟
الموقف المعارض الاقليمي الأبرز من طهران الذي زاد الإرباك ، اذ رفضت الخارجية الايرانية العملية التركية . ولعل الأسئلة الأكثر إثارة بعد إعلان ترامب قراره بالانسحاب، هو فيما اذا كان التوغل التركي يعني انسحاباً أمريكياً كاملاً من المنطقة؟ وماذا ستفعل روسيا، عراب الاسد في سوريا وحليفة اردوغان؟
هدف تركيا هو كسر «قوات سوريا الديمقراطية»، ذات الغالية الكردية، وما بدا أنه تحول وانصراف عن موقف الولايات المتحدة الأول الرافض لأي عملية عسكرية برية تركية في شرق الفرات، لم يفاجئ كثيراً من المراقبين، لأنه ينسجم مع التخبط الذي غلب على سياسات ترامب وقراراته، بعد أن حصرت واشنطن إستراتيجيتها في إلهاء أنقرة بعملية دوريات مشتركة، وإجراءات باهتة، القصد منها إبطاء العملية العسكرية التركية، ولكن تركيا رفضت الخضوع للأمر الواقع، ولا يبدو أن واشنطن كانت تعرف ماذا تفعل لإسكات تركيا، لأنها اهتمت في الفترة الأخيرة، بإبطاء وتأجيل التدخل العسكري التركي، وظلت تركيا تضغط وتهدد للظفر بالموقف الأمريكي، فكما توقع مراقبون، كل ما أراده ترامب كان خطة خروج آمن، وإن رأى بعض المسؤولين أن هذه الخطوة بمثابة خيانة للأكراد الذين حاربت بهم الولايات المتحدة ضد تنظيم «الدولة» لسنوات، ففي حديث إلى شبكة «فوكس «، وصف السناتور الجمهوري، ليندسي غراهام، القرار بأنه «متهور»، من شأنه التراجع عن المكاسب الأمريكية في المنطقة ومنح مقاتلي داعش «عقد إيجار ثانياً مدى الحياة»، كما «يجبر الأكراد على الانحياز مع الأسد وإيران، ويدمر علاقة تركيا بالكونغرس الأمريكي، وسيكون وصمة عار على شرف أمريكا لتخليها عن الأكراد».
أمريكا كانت تريد من اردوغان أن يبقى بعيداً عن شرق الفرات، قبل أن تُغير موقفها، والكل يعلم أن التهديدات التركية كانت تهدف إلى فرض تنازلات، وصولاً إلى التدخل العسكري في منطقة شرق الفرات. ويرى مراقبون ميدانيون، أن تركيا تريد أن تدفع الميلشيات الكردية إلى ما وراء الطريق M4 (أطول الطرق السورية، والذي يبدأ في اللاذقية ويصل إلى حلب مخترقاً ريفها الشرقي في الباب ومنبج ومنها إلى ريف الرقة الشمالي، لينتهي عند معبر اليعربية في محافظة الحسكة قرب الحدود العراقية)، وهذا لقطع خط إمداد ودعم حزب العمل الكردستاني ( (PKKلوكلائه والمجموعات التابعة له، في العراق، إذ ترى تركيا في الحزب مشكلة وجودية على حدودها. وربما الواقع أكثر تعقيدًا وخطورة.
ويبدو أن ترامب، كما رأى مراقبون، لا يزعجه احتمال أن يتجه الأكراد وتركيا إلى الحرب مع بعضهم بعضاً لأنهم «أعداء طبيعيون»، كما وصفهم، وإن كان توقَع بعض المسؤولين أن يتراجع الرئيس ترامب عن قراره ولا يمضي فيه بعيداً، قد تحقق مع تغريدات ترامب الاخيرة التي قال فيها انه لن يتخلى عن الأكراد.
لكن يبقى هدف تركيا، في عمقه وحقيقته، كما أوضح الباحث الأمريكي في صندوق مارشال الألماني والمقيم في اسطنبول، «نيكولاس دانفورث»، في تعليقه على حسابه الشخصي: «ليس إنشاء منطقة عازلة أو إبقاء وحدات حماية الشعب بعيدة عن حدودها فقط، وإنما هدف تركيا هو منع ظهور كيان خاضع لسيطرة وحدات حماية الشعب في سوريا، وعلى نطاق أوسع، إضعاف أو هزيمة وحدات حماية الشعب كجزء من حرب استمرت لعقود طويلة معها». وقال مسؤولون أمريكيون، حاليون وسابقون، إن خطط تركيا لشن عملية في سوريا زادت بشكل كبير في الأسابيع التي تلت قمة الأمم المتحدة، بعد عرض اردوغان لخطته.
وما يمكن قوله، حتى الآن، في معضلة شرق الفرات، إن خطة اردوغان نجحت، تكتيكياً، في التهديد والضغط على ترامب، وتبقى الإشكالية والتعقيد في صيغة الخطوة التالية وعواقبها ومواقف الأطراف المعنية، وخاصة الروس… وقد لخص محلل شؤون المنطقة، «آرون شتاين»، في حسابه على تويتر، ما جرى قائلاً: «ربما تكون تركيا قد قرأت تفكير ترامب بشكل صحيح، لكنها لا تكاد تفهم ما يجري، وربما يكون ترامب قد سهّل سياسة تركيا هنا، لكن ذلك لن يكون بلا تكلفة.»
الكل مستفيد
والكل مستفيد من إبعاد الأكراد، فتركيا تراه إبعاداً لـ»الصداع المزمن» عن حدودها، وإعادة توطين اللاجئين السوريين، والروس يُسهَل لهم هذا، تمكين نظام دمشق من استعادة السيطرة على المناطق الحدودية، وفي هذا، تساءل كبير مراسلي المنطقة في صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية، جورج مالبرونو، مستفهماً: «هل أمام الأكراد من خيار سوى اللجوء إلى دمشق وموسكو؟»، ويبدو أن خياراتهم محدودة، لعل من أبرزها، وفقًا لتقديرات مراقبين، هو التوصل إلى اتفاق مع نظام دمشق، تحت الرعاية الروسية، والدفع باتجاه منطقة بطول 5 كم لتركيا، أشبه باتفاق أضنة، وهذا التقارب مع دمشق تحدث عنه قائد قوات «قسد» صراحة، مظلوم عبدي، وقال في تصريح متلفز قبل ساعات قليلة، قائلاً إنه سيقبل بضم قواته لجيش النظام السوري، إن وافقت دمشق على تسوية يضمن فيها الأكراد حقوقهم الذاتية .