آية الاتاسي / كاتبة سورية
النافذة هي ما يصف بدقة علاقتي بألمانيا، فالنافذة تمنح الإحساس بالوجود داخل المكان وخارجه في آن، وفيها يمتزج هنا وهناك، هنا حيث تلامس قدماك الأرض، وهناك حيث ترتطم يداك بالزجاج ولا تصل.
من وراء النافذة أتأمل بما يشبه الفرجة تلك البلاد التي أتيتها قبل 25 سنة، وكنت حينها طالبة عثرت في اللغة الألمانية على الكثير من صيغ التفاهم، فالألمانية هي لغة العقل، وسليلة الفلاسفة، وقد تصلح بوابة للعبور إلى العقل الألماني، الذي يحتاج دائماً إلى خرائط طريق وإرشادات استعمال، حتى في ما يتعلق بالعواطف. سيفهم المرء سريعاً أهمية «الوقت» في ألمانيا، فالسمعة الحسنة لـ»صنع في ألمانيا» مرتبطة كثيراً باحترام العمل وقيمته وأوقاته. في المقابل سيبدو الألمان وكأنهم لا يتقنون «فن الحياة» كما يتقنون العمل، فالشوارع تنام باكراً، ولا شمس تحرض على «القيلولة»، ومن هنا تأتي قدسية الإجازة السنوية، حيث يعمل الألماني طوال العام لينعم بأسابيع قليلة من الراحة، يهرب فيها غالباً إلى الجنوب حيث دفء الشمس، واللون البرونزي الذي صار رمزاً للرفاهية والعافية، بعد أن كان رمزاً للكدح والعمل الشاق.
يوصف الألمان عادة بأنهم لا يتمتعون بأناقة الملبس، بيد أن الأناقة لديهم تتجلى أحياناً في أناقة حدائق منازلهم الخلفية، وأناقة لغتهم التي تتبع المنطق، وتفسح مجالاً واسعاً للآخر للإنصات من دون مقاطعة، فالفعل يأتي غالباً آخر الجملة، وعلى المستمع أن يدع محدثه ينهي جملته ليعرف مراده. كما أن اللغة الألمانية مليئة بصيغ التهذيب والاحترام، في استجابة ربما لتهذيب الألمان، الذين يكثرون من عبارات الشكر والتمني بنهاية عطلة أسبوع سعيدة أو نهار جميل حتى للغرباء. وليس غريباً أن يغير الألماني مكانه أو حتى موقفه، كي لا يزعج الآخرين، فالغيرية هي تراكم ثقافي وليست مفهوماً طارئاً، وفي المقابل لن يكون مفاجئاً أن يتدخل الألماني كي يوبخ غريباً لا يعرفه، إذا ارتكب حماقة صغيرة مخلة بالقانون. هنا ليست الغيرية ما يحرك «الحس التربوي» الغريزي عند الألماني، بل أيضاً خوفه من اختلال منظومة القانون التي تحكم حياته. وعادة يسير العقل الألماني وفق خطوط مستقيمة، وكل شيء لديه محسوب ومحدد مسبقاً، حتى لائحة الطعام لدعوة الغداء، التي غالباً تتماشى بدقة مع عدد المدعوين من دون أن تزيد أو تنقص، فلا مكان للكرم الطائي هنا.
وفي بلاد صناعة السيارات، السيارة هي سلعة رفاهية ولا حدود تقيد سرعتها على الطرق السريعة، ولكنها أيضاً بلاد الدراجات الهوائية التي تحترم الجيب والطبيعة معاً. وليس غريباً أن يركب طبيب مرموق دراجته للذهاب إلى عمله في تصالح كامل مع البيئة. ألمانيا التي تعتبر اليوم من الدول الصناعية المهمة في العالم أعيد بناؤها بإرادة وتصميم، ولكن ليس ارتقاء المباني وحده ما يصنع الحضارة، بل هو الارتقاء الإنساني والثقافي، الذي يعيد ترميم العطب الذي أصاب أمة كاملة بعد الحرب العالمية الثانية. وإلى اليوم مازال «شبح «النازية» يلاحق ألمانيا، ويحمل الأحفاد وزر المحارق التي أشعلها الأجداد، ولهذا غالباً ما يتعامل الألمان بكثير من الحذر مع الغرباء، خوفاً من وصمهم بالعنصرية، التي تفتح جرحاً عميقاً في ذاكرة جمعية. ألمانيا بلغة أبنائها هي «دوتشلاند» وتعني حرفياَ بلاد الألمان، فهل هي حقاً للألمان وحدهم!
يصعب اليوم تخيل ألمانيا خالية من المثلجات الإيطالية، أو الشاورما التركية، أو الفلافل التي طعّم بها العرب الذائقة الألمانية، حتى ليبدو المطبخ الألماني اليوم أكثر غنى بسبب الانفتاح على الثقافات الأخرى
ماما ميركل
في الواقع يصعب اليوم تخيل ألمانيا خالية من المثلجات الإيطالية، أو الشاورما التركية، أو الفلافل التي طعّم بها العرب الذائقة الألمانية، حتى ليبدو المطبخ الألماني اليوم أكثر غنى بسبب الانفتاح على الثقافات الأخرى، وما يسري على المطبخ يمكن تعميمه على الكثير من جوانب الحياة الأخرى. وألمانيا في تاريخها الحديث عرفت بداية الهجرة في منتصف القرن الماضي مع الباحثين عن لقمة العيش، في بلد خرج من الحرب مدمراً، وقد فقد الكثير من رجاله، تلت ذلك في منتصف التسعينيات الهجرة لأسباب إنسانية من دول البلقان، ومؤخراً جاء السوريون في قوارب الموت هرباً من أتون الحرب السورية. وتحديداً في سبتمبر/أيلول 2015 اتخذت المستشارة الألمانية ميركل قراراً مصيرياً باستقبال السوريين لدواع إنسانية واقتصادية، ودفعت ثمناً لهذا منصبها. ولكنها ابنة المستحيل، فهي ابنة لقس بروتستانتي عمل في ألمانيا الشيوعية، وهي الفتاة المدللة للمستشار السابق هلموت كول، التي تمكنت من الانقلاب على القيادة المحافظة للحزب المسيحي الديمقراطي، لتصبح أول امرأة تحكم ألمانيا. واستطاعت خلال سنوات حكمها من تحقيق الكثير من الإنجازات، حيث تحول عجز الميزانية إلى فائض، كما تم التخلي عن الطاقة النووية مقابل الطاقات المتجددة، وصولاً إلى الفقر الذي أصبح له سقف يضعه الحد الأدنى للأجور. ولعل «المرأة الحديدية» التي عاشت سقوط جدار برلين، تعلمت أن الجدران إنما وجدت لتسقط، ومن هنا جاء شعار «نحن نستطيع»، الذي حول امرأة لم تعرف الأمومة، إلى أم لآلاف اللاجئين السوريين. وعلى الرغم من أن الطريق إلى أوروبا أغلق عام 2017، بإغلاق آخر المخيمات على الحدود المقدونية، إلا أن الطريق الذي حفرته مستشارة القلوب في ألمانيا، يبدو عصياً على الردم والنسيان.
لم يسقط الجدار
عندما سقط جدار برلين أغلقت الكثير من المؤسسات في ألمانيا الشرقية، وفقد العاملون فيها وظائفهم، وشعروا وكأن الغرب يقول لهم «انتهت صلاحيتكم»، وما تعرفونه لم يعد صالحاً في عالمنا الرأسمالي. اليوم بعد ثلاثين سنة، ورغم انخفاض معدل البطالة إلى 7%، مازال الكثير من الألمان الشرقيين يشعرون بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، في بلد مازال الألمان الغربيون يسيطرون على 95% من المناصب العالية فيه. ومن هنا ليس مستغرباً أن يستثمر حزب يميني متطرف، كحزب البديل من أجل ألمانيا، حالة التذمر تلك للتحريض ضد الأجانب، واستخدامهم كورقة رابحة في الانتخابات، من دون أن يعني هذا أن الناخبين جميعهم عنصريون، ففي لقاء أجري مع شاب ألماني شرقي، بعد الإدلاء بصوته في الانتخابات الأخيرة، قال: «لقد انتخبت حزب البديل، هل أصبحت عنصرياً؟».
سؤال فيه الكثير من الخوف، ومن تأنيب الضمير في بلد عاش كوارث النازية ومعسكرات الإبادة، ثم الشيوعية وصراع الحرب الباردة، ولم يعد بمأمن تماماً من الشعبوية التي باتت تحكم العالم اليوم. وحسب استطلاعات الرأي فإن ناخبي اليمين المتطرف اليوم في شرق ألمانيا هم جيل الجدار، وجيل الوحدة وأخيراً جيل الألفية الثالثة، بعضهم عرف النازية والشيوعية، وبعضهم عاش ديكتاتورية الحزب الواحد، وبعضهم عرف الديمقراطية، ولكنه انتخب كشكل من أشكال الاحتجاج على التهميش، خصوصاً في المناطق الريفية والنائية.
وهكذا يبدو بعد مرور ثلاثة عقود على سقوط جدار برلين، مازال الجدار حاضراً في العقول، وتصدعه مازال ينخر في القلوب.
رغم الوحدة التي تحققت بين شطري ألمانيا، إلا أن «الوحدة « التي يعيشها كبار السن في مجتمع الفردية المطلقة لم تتغير.
البديل لألمانيا
هل كراهية الآخر التي يقودها الحزب اليميني المتطرف هي حقاً البديل لألمانيا؟ أم البديل هو الصيدلي السوري الشاب الذي اجتاز كل الامتحانات بتفوق، ووقف يترجم للمرضى العرب، ويصف الدواء المناسب، أليس البديل هو الفتاة السمراء الجميلة التي تركت دراسة اللغات في سوريا، ووقفت في استقبال الفندق الفخم ترحب بالسياح، أليس البديل هو الشاب الهندي الذي يبدو الكمبيوتر بين يديه كلعبة صغيرة، يطوره ويبرمجه ويعيد اختراعه حسب الحاجة. أليس البديل هو مصفف الشعر السوري، الذي رفض المعونة الاجتماعية، واختار العمل وكما قال: «من بيده كار لن يحتاج أحداً»، اللغة لديه ليست عائقاً، حيث «شعر الرأس» يتقن كل اللغات، ما دام ينال العناية المناسبة. إذن، ليس اللجوء عبئاً دائماً، بل هناك بعد نظر في سياسة ميركل فتح الباب للعقول والأيادي المنتجة، من أجل ضخ دم جديد في ألمانيا المسنة، رغم حضور العقل واتقاد الذهن.
شيخوخة ألمانية
رغم الوحدة التي تحققت بين شطري ألمانيا، إلا أن «الوحدة « التي يعيشها كبار السن في مجتمع الفردية المطلقة لم تتغير. عدد قليل فقط يشيخ برفاهية مفرطة في أماكن أشبه بفنادق خمسة نجوم، وحيث تبدو الشيخوخة هناك أشبه بـ»طبق الحلويات» في نهاية الوجبة، ولكن الأغلبية تعيش شيخوختها في عوز ووحدة، رغم الضمان الصحي والإعانة الاجتماعية.
في تقرير تلفزيوني أعد عن التقاعد في ألمانيا، تزور المراسلة الصحافية داراً للعجزة، وتجري عدداً من اللقاءات مع المسنين هناك، إحدى المسنات تقول في نهاية المقابلة:
«الحديث معك منحني السعادة، فالوحدة هنا قاتلة». وفي خلفية الصورة بدت عجوز في كرسيها المتحرك، وهي تحتضن دمية كالتي تلعب بها الصغيرات، ورغم أنها لم تتحدث إلى الكاميرا، لكن مرورها العابر وهي تحتضن الدمية وكأنها تبحث فيها عن أولادها، قال الكثير عن ألمانيا الهرمة التي تتألم وحيدة.
غوتنمورغن دوتشلاند
وأنا أقترب من نهاية مقالي، أشعر بأنه مازال هناك الكثير ليقال عن بلد منحني الكثير، وأحمل جنسيته من دون أن أكون ابنة شرعية له. سنختلف كثيراً حول تعريف الوطن، ولكنني أعرف أنني أعيش غربتي في مكانين، وطن حاضر ووطن مؤجل..
من أنا؟
سورية في ألمانيا؟
ألمانية في هذا العالم؟
هو تشويش يصيبني قبل الآخرين. أقترب من النافذة فيغمرني بحر أخضر، وتقترب السماء أكثر، ليدخل الصباح الألماني البارد إلى قلبي…
غوتن مورغن دوتشلاند.
هي الشمس تشرق دوماً من الشرق، حتى لو كنا في ألمانيا.