سامح المحاريق / كاتب أردني
تعرضت العاصمة النمساوية فيينا لحصارين عثمانيين في القرن السادس عشر، وبقي الخطر العثماني محيقاً بأوروبا بصورة خانقة، على امتداد عقود تالية، والحديث عن فيينا في ذلك العصر يستجلب حقيقة أنها كانت من العواصم الأوروبية المؤثرة للغاية في موازين القوى، خاصة أن الاتحاد الألماني والإيطالي لم يكونا قد تحققا على أرض الواقع.
لقرنين من الزمن كان التهديد العثماني الشبح المخيف في الذاكرة الشعبية الأوروبية، وفي داخل ثقافة أي شعب توجد مناطق معتمة، يعتقد البعض أنها غير مؤثرة، إلا أنها في بعض الأوقات تؤدي الدور الذي يقوم به اللاوعي في حياة الفرد، وفي هذه المرحلة يتوجب الانتباه إلى التفاصيل حيث تفضل الشياطين الإقامة.
كان العثمانيون يجمعون خليطاً من الأجناس التركية والفارسية والقوقازية والتترية والعربية والكردية والأمازيغية، والعامل المشترك بينهم كان الدين الإسلامي، الذي يعطيهم الهوية الجمعية، وبعد قرون من الزمن لم يعد العثمانيون يسيطرون على فيينا بالمعنى السياسي، ولكنهم أصبحوا في فيينا وغيرها من المدن الألمانية مثلاً، جزءاً من هوامش المدن التي تأخذ في النمو، فيمكن لزائر إلى فرانكفورت أن يتعامل بصورة يومية مع عدد من المهاجرين، وخاصة العثمانيين، بأكثر مما تتاح له الفرصة للتعامل مع الألمان، فسائق التاكسي الذي سيقله من المطار أفغاني، وعامل الاستقبال في الفندق كردي، والبائع في محل البقالة أمازيغي، والوجبة ذات السعر المناسب يبيعها مطعم تركي يقف وراء سيخ الكباب عامل عربي، وهذه الالتقاطة عايشتها شخصياً في زيارة للمدينة. في زيارة أخرى لمنطقة كيمبرلي في الريف البريطاني القريب من لندن كنت أقطن في أحد الفنادق القديمة، وكانت نسبة الأجانب محدودة في المنطقة، ولذلك لم يجد الفندق حرجاً من وضع لوحة كاريكاتيرية قديمة تسخر من وجود المهاجرين، خاصة بعد الثورة الإيرانية، وهذه حقيقة انتخابية بدأت تظهر مؤخراً في صعود اليمين في بريطانيا ليرافق بقية القوى اليمينية التي تتقدم في أوروبا، وربما تكون قريباً المسيطرة في فرنسا وألمانيا.
خاض جيرمي كوربن المعركة السياسية الخاطئة في التوقيت الخاطئ، فالمهاجرون يمثلون كبش الفداء الجاهز في المعادلة
في المناطق الشبيهة بكيمبرلي اكتسح حزب المحافظين النتائج الانتخابية، والخريطة التي نشرت لمواقع السيطرة على التمثيل النيابي في بريطانيا تبين أن العمال أخذوا ينحسرون في لندن وبعض المدن الصناعية مثل ليفربول ومانشستر، أي حيث يتركز وجود المهاجرين، وبذلك تكون كل الجهود التي بذلها قائد العمال جيرمي كوربن لإظهار الوجه البشع لسيطرة المحافظين من تفاوت اجتماعي، أدى إلى ظهور بنوك الطعام كأحد مظاهر الحياة في بريطانيا، بالإضافة إلى زيادة عدد المشردين، وغيرها من الظواهر غير الاعتيادية في دولة صناعية متقدمة. الداخل البريطاني بعيداً عن المدن الكبرى يتخوف من المهاجرين، وكذلك الأمر في البلدان الأخرى، فالمهاجرون يفضلون البقاء على هامش المدينة، حيث الفرص الاقتصادية والتساهل في القيم الاجتماعية، والانتخابات لا تقوم على المدن وحدها، ويدرك سكان الريف والمناطق الداخلية دورهم وفرصتهم في تأمين حياتهم من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، ويدركون أن الفرصة العددية ما زالت مواتية لإحداث تغيير جذري في السياسات المنفتحة تجاه المهاجرين، ويحلمون أيضاً بقرارات جريئة كالتي اتخذها الرئيس الأمريكي ترامب، ليحضر في الذهن إن عزل الرئيس الأمريكي لا يتعلق بسياساته تجاه المهاجرين، ولكنه يتماس مع سلوكيات شخصية، واستعادة نموذج مشابه له في حال عزله، سيكون أمراً مطروحاً على الدوام.
العنوان المناسب ليس خسارة كوربن، وليس العنوان الأكثر أهمية أيضاً، ولكن السؤال المثير يكمن في فوز جونسون، الذي كان يواجه مستقبلاً سياسياً غامضاً ومترنحاً قبل أسابيع، ويبدو أن الناخب البريطاني كان يضع مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي قبل أي شيء آخر في هذه الانتخابات، وكأنها استفتاء جديد على توديع القارة الأوروبية بمشكلاتها وأزماتها، ومن أبرزها وربما في مقدمتها، قضايا المهاجرين، والعلاقة الاقتصادية المختلة بين دول الشمال والغرب النشيطة اقتصادياً، وقيمها التي تؤكد على المنافسة، والقيم السائدة جنوباً على شواطئ المتوسط في إيطاليا واليونان وإسبانيا.
بعيداً عن بريطانيا التي يبدو أنها حسمت خياراتها، يثير لاعب كرة القدم مسعود أوزيل المقرب من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أزمة جديدة، بعد تصريحاته عن مسلمي الإيغور في الصين، ويبدو اللاعب الدولي في منتخب ألمانيا صورة للمهاجرين الذين لم يستطيعوا أن يزيحوا عن أكتافهم الأسئلة التي تخص أوطانهم الأصلية، ومع أن الألمان لا يعلقون على الأمر على المستوى الرسمي كثيراً، إلا أن وضعية أوزيل تعيد الأسئلة حول الاندماج في المجتمع الأوروبي، خاصة بعد ملامح تقاربه مع الرئيس التركي أثناء أزمات التراشق بين تركيا وألمانيا، الأمر الذي يضع أسئلة الاندماج في المقدمة من جديد. التشكيك الذكي في فكرة الاندماج أتى من شبكة «نتفليكس»، وكانت المعالجة لئيمة نوعاً ما، فالحديث لم يكن عن مهاجر من الشرق، ولكن عن رجل عصابات يلجأ إلى مدينة ليلهامر النرويجية الصغيرة، من أجل الاختباء، بعد شهادته عن أحد رؤساء المافيا، ويقوم الرجل الذي يتلقى تحذيراً بعدم خرق أصول الاندماج في المجتمع الصغير الهادئ بإفساد المحيطين به، وتحويل ملاذه الهادئ والبسيط إلى مستقر لممارسة أنشطته الإجرامية، ما يوجه نقداً عميقاً لعبثية تحقيق الاندماج على المستوى الثقافي في النرويج، أو غيرها من الدول الأوروبية، وما زالت الفصول الساخنة التي تنقلها وسائل الإعلام حول فشل الاندماج تتواصل وتتوسع.
خاض جيرمي كوربن المعركة السياسية الخاطئة في التوقيت الخاطئ، فالمهاجرون يمثلون كبش الفداء الجاهز في المعادلة، والحديث عن التنوع الثقافي والاجتماعي لم يكن مناسباً ليخاطب به من يشعرون بالتهديد، وإن يكن تهديداً بطيئاً وخفياً، إلا أنه يخترق المجتمع ويغيره، بينما كان التهديد حول أسوار فيينا صاخباً وعنيفاً، استدعى مقاومة شرسة وكراهية وضعت الأوروبيين أمام أسئلة كبرى تطلبت الإجابة عنها مئات السنين، وصولاً إلى الاتحاد الأوروبي الذي يبدو أنه يقع تحت طائلة مزيد من الأسئلة، فالشعور الأوروبي بالخطر أدى إلى توحيد القارة رويداً رويداً، ولكنه يخلق أيضاً مشكلاته بين القارة العجوز التي تواجه نضوباً سكانياً، واستيراد السكان الذين يمثلون في واحد من الجوانب، الخطر الكبير على هوية أوروبا.