اسماعيل كايا / اسطنبول
رغم مرور ساعات طويلة على عملية اغتيال الجيش الأمريكي لقاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، والقائد المباشر للمليشيات الإيرانية في سوريا والعراق ومناطق أخرى من العالم العربي، إلا أن تركيا التزمت الصمت حتى مساء الجمعة، ولم يصدر عنها أي موقف رسمي، على غرار ما فعلت أغلب العواصم العالمية حتى الآن.
وبغض النظر عن الموقف الرسمي التركيالذي سيخرج للإعلام خلال الساعات المقبلة بلا شك، إلا أن الموقف الفعلي لتركيا يبدو معقداً، كونه يحاول الموازنة بين رغبتها الجامحة في ضرب النفوذ الإيراني خارج حدودها، ومعارضته الشديدة لأي حرب قد تشتعل في المنطقة وتؤدي إلى انهيار الدولية الإيرانية، لما يحمل ذلك من تهديد كبير للأراضي التركية.
ولا يوجد أي شك حول مدى الرضا التركي الكبير عن أي تطورات سياسية أو عسكرية تؤدي إلى تحجيم النفوذ الإيراني الخارجي، وخاصة نفوذها العسكري المتصاعد في دول الجوار كالعراق وسوريا ومناطق أخرى كاليمن ولبنان وغيرها، حيث ترى تركيا في هذا النفوذ توسعاً إيرانياً على حسابها.
وفي هذا الإطار، يعتبر قتل قاسم سليماني، ومن معه من قيادات مليشيات عراقية ولبنانية كبيرة موالية لإيران أمراً يصب في مصلحة تركيا التي تأمل أن يتم وضع حد لنفوذ المليشيات الإيرانية في سوريا والتي تقترب شيئاً فشيئاً من الحدود التركية، من خلال دعم هجوم النظام المتواصل على إدلب، وهو ما تعتبره أنقرة تهديداً على أمنها القومي، كما أنه لم تصدر أي إدانة تركية سابقة للغارات الإسرائيلية المتتالية التي استهدفت المواقع والمليشيات الإيرانية في سوريا، حيث يتوقع أن تكتفي تركيا بالدعوة إلى وقف التصعيد وعدم الانجرار إلى حرب في المنطقة، دون إدانة مباشرة لعملية الاغتيال الأمريكية لقاسم سليماني ورفاقه.
ففي مقابل الرغبة بتقليم أظافر إيران ونفوذها العسكري في المنطقة بشكل عام وفي سوريا والعراق بشكل خاص، تخشى تركيا وتعارض بقوة أي تصعيد يمكن أن يؤدي لاندلاع حرب داخل الأراضي الإيرانية وإمكانية انهيار الحكومة المركزية هناك، الأمر الذي ترى فيه خطرا استراتيجيا حقيقيا على تركيا ومستقبل المنطقة، وذلك “ليس حباً في النظام الإيراني وإنما خشية من الفاتورة الباهظة للفوضى وانهيار الدولة”، ما قد يحولها إلى سوريا جديدة على الحدود التركية الممتدة مع إيران بطول 300 كيلومتر.
وتعارض تركيا أي سيناريو يدفع المنطقة إلى مواجهات عسكرية غير محسوبة العواقب يمكن أن تتطور بشكل غير محسوب لتشمل دولاً أخرى ومنها دول الخليج وهو ما يعني دخول المنطقة في حالة من الاصطفاف واتخاذ مواقف قطعية بالوقوف إلى جانب طرف على حساب الآخر وربما الانزلاق لتتحول إلى طرف مباشر في هذه المواجهة وما يترتب على ذلك من متاعب سياسية وعسكرية واقتصادية.
وتتوقع تركيا في حال انهيار الحكومة الإيرانية عودة قوية للتنظيمات الإرهابية على غرار تنظيم “الدولة” وظهور مليشيات شيعية متشددة ربما تتحول أيضاً لمهاجمة تركيا، إلى جانب أن ذلك سوف يشجع ويساعد على عودة التنظيمات الإرهابية للعراق أيضاً وضمان استمرار وتعمق الأزمة الحالية في سوريا، وهو ما يطلق عليه المحللون الأتراك سيناريو انهيار الأمن والأنظمة القوية في دول الجوار واشتعال الجوار التركي بشكل كامل.
وتعلم تركيا جيداً أن ضعف النظام الإيراني أو انهياره سوف يعني على الفور انتعاش التنظيمات الكردية المسلحة وعلى رأسها تنظيم “بي كا كا” وتفرعاته في العراق، وعودة القوة لفرعه الإيراني “حزب الحياة الحرة الكردستاني” وتسهيل انتقال الأسلحة إلى التنظيمات الكردية من سوريا للعراق وصولاً لإيران ومن ثم تركيا، وبالتالي تدمير كافة الإنجازات التي وصل لها الجيش التركي في إضعاف تنظيم “بي كا كا” داخل تركيا وفي إيران طوال السنوات الماضية.
والسيناريو الأخطر في هذه الإطار، هو أن انهيار نظام الحكم يعني ظهور النزعات الانفصالية في إيران على غرار ما جرى في العراق سابقاً وسوريا لاحقاً، وبالتالي فإن الأكراد في إيران سوف ينشطون للمطالبة والعمل على إقامة كيان منفصل لهم وهو ما يشجع أكراد تركيا على العمل لإقامة دولة خاصة بهم أيضاً، وهو ما اعتبرته تركيا منذ عقود الخطر الاستراتيجي الأكبر عليها.
وفيما يتعلق بمصادر الطاقة، تخشى تركيا أن أي نزاع ولو كان محدوداً يمكن أن يؤثر على إمدادات الطاقة الإيرانية إليها، حيث تعتمد أنقرة بدرجة كبيرة على النفط والغاز الإيراني وبأسعار تفضيلية وبتكاليف نقل أقل من غيرها، وفي حال توقفها ستكون بمثابة ضربة موجعة جداً لتركيا التي لن تتمكن بسهولة من توفير بديل للكميات الكبيرة من الغاز والنفط الذي تحصل عليه من إيران كما أن ذلك سوف يكلفها خسائر سنوية قد تصل إلى مليارات الدولارات.
واقتصادياً، تعتبر إيران شريكا اقتصاديا مهما لتركيا، ويسعى البلدان لرفع حجم التبادل التجاري من قرابة 20 مليار دولار إلى أكثر من 30 مليار دولار، وفي حال وقوع أي مواجهة عسكرية يعني أن الاقتصاد التركي المنهك هذه الأشهر بفعل أزمات متلاحقة سيتلقى ضربة موجعة تزيد من متاعبه بشكل غير مسبوق بفعل خسائر قد تصل لعشرات مليارات الدولارات.
وإنسانياً، تتوقع تركيا في حال تدهور الأوضاع ووقوع مواجهة عسكرية كبيرة أن تحصل موجة لجوء كبرى من إيران نحو الأراضي التركية على غرار ما جرى في الأزمة السورية، وهو ما لم تعد تركيا قادرة على تحمله لا أمنياً ولا اجتماعياً والأهم اقتصادياً.