اسماعيل كايا / اسطنبول
قدم مسؤولون وكتاب ووسائل إعلام تركية طوال الأيام الماضية إشارات متعددة لوجود رغبة تركية حقيقية في التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية مع مصر، على غرار ما قامت به تركيا مع ليبيا مؤخراً، ملمحين إلى إمكانية تحييد الخلافات السياسية العميقة مقابل تحقيق مكاسب اقتصادية متبادلة.
ويركز التصور التركي على إمكانية وضع الخلافات السياسية الكبيرة بين البلدين جانباً، والبحث عبر مستويات دبلوماسية منخفضة في إمكانية التوصل لتفاهمات تتعلق بترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة لهما، وذلك من دون الخوض في الملفات السياسية الصعبة العالقة بينهما.
ورغم وجود رغبة تركية جامحة في التوصل لهكذا اتفاق مع القاهرة، إلا أنها لم تبد أي استعداد بعد لبحث الملفات السياسية العالقة بين البلدين، وتطرح أنقرة حالياً تصوراً يتمحور حول إجراء اتصالات على المستوى الاقتصادي أو الدبلوماسي منخفض التمثيل لبحث إمكانية التفاهم حول الحدود البحرية بما يعود بالنفع على كلا البلدين.
مصادر مقربة من مسؤول تركي مطلع على الملف، قال لـ«القدس العربي» إن الرئيس التركي، رجب طيب اردوغان، ما زال متمسكاً بموقفه القوي ضد الانقلاب في مصر وضد إدارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وإنه لم يبد أي ليونة بعد تتعلق بإمكانية إجراء اتصالات سياسية رفيعة مع مصر.
واستدرك: «لكن عقب الاتفاق مع ليبيا والتطورات المتسارعة في شرق البحر المتوسط، وبما يمكن أن يحقق المصلحة السياسية والاقتصادية للشعبين التركي والمصري يمكن بحث إمكانية التوصل لاتفاق لترسيم الحدود البحرية بين البلدين ولكن بشرط عدم تقديم أي تنازلات سياسية».
لكن أصوات سياسية وكتابا يعتبر بعضهم مقربين من الحكومة التركية أطلقوا دعوات لإمكانية «تقديم بعض التنازلات» من أجل الوصول إلى اتفاق مع مصر حول ترسيم الحدود البحرية، معتبرين أن ذلك أمر ملح في المرحلة الحالية لما يشكله الصراع في شرق المتوسط من أهمية استراتيجية لتركيا على المدى البعيد.
ونهاية العام الماضي، وقعت تركيا مع حكومة الوفاق الليبية في طرابلس على اتفاق لترسيم الحدود البحرية وتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة لتركيا وليبيا في البحر المتوسط، وهو الاتفاق الذي فجر خلافات واسعة جداً مع دول حوض شرق المتوسط وعلى رأسها مصر واليونان وإسرائيل وقبرص اليونانية.
لكن تركيا التي أكدت على حقها في توقيع الاتفاقية رغم الرفض الدولي، وشددت على أنها تصب في مصلحة مصر، ونشرت وسائل الإعلام التركية عشرات التقارير المدعومة بالأرقام والخرائط والتي قالت إنها تؤكد أن الاتفاق التركي الليبي يأتي في صالح مصر ويعيد لها حصة كبيرة من حقوقها التي خسرتها في اتفاقيات وصفتها بـ«السياسية» مع اليونان وقبرص، ودعت مصر للاستفادة من الاتفاقية في استعادة حقوقها البحرية وحقوقها من مخزون الغاز في شرق المتوسط.
وعقب الاتفاق البحري التركي الليبي، قال الناطق باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، في مؤتمر صحافي، إن بلاده لديها معلومات من مصادر مختلفة رسمية وغير رسمية تفيد بأن «مصر سعيدة جداً»، مضيفاً: «مصر في الواقع أيضاً سعيدة جداً بالاتفاقية التي أبرمناها مع ليبيا بشأن تحديد مناطق الصلاحية البحرية. والمسؤولون المصريون قالوا ذلك، لقد اتسعت منطقتهم»، وتابع: «لا يوجد لدينا حالياً تواصل مع الحكومة المصرية، لكنهم يدركون أيضاً أنه لا يمكنهم وضع خطة لشرق البحر الأبيض المتوسط بمعزل عن تركيا، عند مقاربة الموضوع من منظور بعيد الأمد ومن حيث ثراء المنطقة».
وقبل أيام، وصف وزير الخارجية التركي، مولود جاوش أوغلو، مواقف مصر الحالية بأنها «ليست صحيحة وشروطها غير مقبولة»، نافياً احتمالات حدوث تقارب بين القاهرة وأنقرة خلال 2020. كما لفت إلى أن من غير المتوقع أن يحدث لقاء مفاجئ بين مسؤولين أتراك ومصريين خلال العام الجديد.
وقال: «التقيت سابقاً مع وزير الخارجية المصري، سامح شكري، ونحن نولي أهمية كبيرة لاستقرار مصر، المواقف المصرية الحالية ليست صحيحة وشروطها غير مقبولة، فعلى سبيل المثال لا يقبلون أي تعليق من الرئيس اردوغان بخصوص وفاة الرئيس المصري السابق محمد مرسي».
لكن الدعوة الأوضح جاءت على لسان ياسين أوقطاي، مستشار اردوغان لشؤون حزب العدالة والتنمية الحاكم، حيث كتب مخاطباً مصر: «إذا كانت اليونان وقبرص اليونان وإسرائيل قد سرقت حلمكم في أن تكون مصر هي قاعدة لتصدير الغاز فإن حكومة تركيا لم تفعل، بل ساعدتكم من خلال اتفاقها مع الحكومة الليبية على إعادة المياه الاقتصادية المصرية المسروقة إليكم.. أليس كذلك؟»، مضيفاً: «بعيداً عن الاختلافات السياسية ماذا لو توصلت مصر وتركيا لاتفاق حول المياه الاقتصادية بينهما في شرق المتوسط.. تخيلوا حجم النفع والخير الذي يعود على الشعبين الشقيقين؟ هذه دعوة للخبراء الاقتصاديين بطبيعة الحال». وتابع: «على مدار التاريخ كانت مصر وتركيا منابر حضارة ومشاعل نور للمنطقة وللعالم، كم خسر العرب والمسلمون وحتى العالم بسبب الفتن السياسية وسياسة التفرقة والتبعية والتدخل في شؤون الدول وحرمان الشعوب من التعبير عن رأيها، لدينا فرصة للعودة»، لكنه استدرك لاحقاً بالقول: «ليس معنى البحث عن السلام مع الآخرين أننا سنبيع قيمنا ومبادئنا من أجل مكاسب سياسية أو اقتصادية نراها رخيصة إذا قورنت بالمبادئ والأخلاق، نقطة ومن أول السطر أيضاً».
والعلاقات التركية المصرية تمر في أسوأ مراحلها على المستوى السياسي منذ الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي عام 2013 وتراجعت العلاقات أكثر عقب وفاته، ومع تصاعد الخلافات حول شرق المتوسط وليبيا وصل الأمر للتحذير من مخاطر الصدام العسكري بين البلدين. لكن على الرغم من ذلك، استمرت العلاقات الاقتصادية بين البلدين طوال هذه السنوات. فقبيل الأزمة وصل حجم التبادل التجاري بين القاهرة وأنقرة إلى قرابة 5 مليارات دولار في أعلى رقم طوال السنوات الماضية، وتدريجياً تم استعادة هذا الرقم الذي وصل إلى أكثر من 5.3 مليار دولار عام 2019 ليصبح بذلك أعلى معدل لحجم التبادل التجاري بين البلدين في نموذج على قدرة البلدين على تحييد الخلافات السياسية لصالح التعاون الاقتصادي، وهو ما تعول عليه تركيا في تحييد الخلافات السياسية لتحقيق مكاسب اقتصادية في شرق المتوسط انطلاقاً من قاعدة «اكسب ـ اكسب»، التي يطرحها اردوغان مؤخراً.