العلاقات الفرنسية التركية تعيش خلافات مزمنة منذ عدة عقود. لكن التوتر برز أكثر في عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي ثم في عهد الحالي إيمانويل ماكرون، دون أن يهدأ بينهما في عهد فرانسوا هولاند. ظاهريا يعود السبب إلى السياسة الخارجية الهجومية التي يمارسها رجب طيب أردوغان، كرئيس وزراء ثم كرئيس جمهورية تركيا، وتمرده على كثير من المسلمات في العلاقات الدولية، خصوصا بين أوروبا وجيرانها الجنوبيين.
ثم هناك عوامل شخصية. رجل مثل ساركوزي، بغروره الذاتي المفرط، وآخر مثل ماكرون، بطموحه الأكبر منه، يرفضان أن يخرج لهما رجل من دولة «عالمثالثية» ينافسهما في ملاعبهما التقليدية، ويشاكس القوى العظمى ويتفوق عليها أحيانا. في المقابل يرى أردوغان أن الرفض الذي تواجهه بلاده في أوروبا وإصرار فرنسا على حرمانها من العضوية في الاتحاد الأوروبي يستهدفه شخصيا. ويرى أن المواجهة مع فرنسا وبقية الأوروبيين هي قضيته الشخصية.
أحد أسباب الخلاف المزمن بين البلدين أيضا وجود لوبي أرمني في فرنسا يضغط بلا توقف لتوجيه الرأي العام وصالونات السياسة والإعلام ضد تركيا عموما وأردوغان خصوصا. وقد نجح هذا اللوبي إلى حد بعيد، إذ تكفي إطلالة سريعة على ما تكتب وسائل الإعلام الفرنسية وتبث عن تركيا، ليتأكد المرء أن الموقف السلبي الفرنسي تجاه تركيا متجذر وربما غير قابل للإصلاح.
في المقابل لم يقصّر أردوغان في منح خصومه أوراقا قوية يستعملونها في حربهم معه. الظروف الداخلية السلبية، خصوصا القبضة الحديدية التي يدير بها أردوغان بلاده، وقمعه للحريات الفردية والجماعية والإعلامية، والمضايقات السياسية التي يتعرض لها المعارضون شكّلت سلاحا ثمينا للفرنسيين بالخصوص والغرب عموما لمهاجمته في المحافل الدولية والنيل من رصيده. كذلك تفعل بعض عثرات أردوغان الاقتصادية والقرارات الدبلوماسية والاستراتيجية المتعلقة بأزمات إقليمية على رأسها الحرب السورية، وتمدده نحو ليبيا.
أردوغان بدوره لم يستسلم. إنه يبحث باستمرار عن أوراق يستخدمها سلاحا في حربه المستعرَّة مع الأوروبيين. لكن هدفه، كما هو واضح، فرنسا أكثر من غيرها. غير أن أوراقه قليلة وخياراته محدودة، لذلك مَدَّ بصره بعيدا ليجد أن إحدى أوراقه تمتلكها الجزائر، فأصرَّ كلما توفرت له المناسبة على «معايرة» فرنسا بجرائمها في الجزائر خلال الفترة الاستعمارية (1830 ـ 1962). لكن في زيارته الأخيرة إلى الجزائر رفع السقف إلى الأعلى مرتين: مرة عندما اقترح على نظيره عبد المجيد تبون تسليمه وثائق عن جرائم فرنسا في الجزائر، بعد أن أبلغه الأخير بأن الفرنسيين قتلوا خمسة ملايين جزائري وليس فقط مليونا ونصف المليون كما هو شائع في كتب التاريخ.
العلاقات الفرنسية التركية تعيش خلافات مزمنة منذ عدة عقود. لكن التوتر برز أكثر في عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي ثم في عهد الحالي إيمانويل ماكرون، دون أن يهدأ بينهما في عهد فرانسوا هولاند
ومرة أخرى عندما باح بما دار بينه وبين تبون في هذا الخصوص، وهو ما يُفترض أنه من الأسرار.
في (يناير) 2012 «عاير» أردوغان فرنسا بمذابحها في الجزائر، فردّ عليه بقوة وسرعة رئيس الوزراء الجزائري أحمد أويحيى. أويحيى دعا الرئيس التركي إلى «عدم المتاجرة بدماء الجزائريين»، مذكّرا إياه بأن تركيا «هي التي سلّمت الجزائر لفرنسا في الأيام الأولى من الغزو» الفرنسي في صيف 1830. وزاد أن تركيا عارضت استقلال الجزائر في المحافل الدولية وكانت شريكا في جرائم فرنسا بالجزائر باعتبارها عضوا في حلف شمال الأطلسي الذي وقف وراء فرنسا الاستعمارية.
يجب وضع ردّ فعل أويحيى العنيف في سياق 2012 والموقف الرسمي الجزائري الذي كان يتهم تركيا بالمشاركة في إذكاء الربيع العربي، ويحمّلها مسؤولية المشاركة في الإطاحة بأنظمة حكم تشبه النظام الجزائري وحليفة له. ويجب أيضا وضعه في سياق العناد الذي يتميز به النظام الجزائري حتى لو كان على خطأ والآخرون على صواب. وأخيرا يجب وضعه في سياق الإحراج الذي كان سيشعر به النظام الجزائري أمام فرنسا لو أنه لم يرد على أردوغان، ما كان سيُفسَّر فرنسيًا بأنه نوع من الرضا.
رغم كل عيوب أويحيى، كان موقفه هذا صادقا. فأردوغان لا يوظّف تاريخ فرنسا حبّا في الجزائريين بل نكاية في الفرنسيين. (لكن حزم أويحيى، وغيره، كان سيبلغ الكمال لو في مقابل منعه أردوغان من «المتاجرة بدماء الجزائريين»، فعل شيئا ليعيد للجزائريين حقوقهم من فرنسا الاستعمارية التي نكّلت بهم ونهبت خيراتهم وقضت على مستقبلهم).
الحرج مع فرنسا قد وقع هذه المرة، ليس فقط لأن أردوغان «عبث» بقضايا تاريخية حساسة، إنما أيضا لأن النظام الجزائري لا يجرؤ على إغضاب فرنسا، ولا يستطيع، حتى لو أراد، بسبب تداخل المصالح الفردية والجماعية في عاصمتي البلدين.
المسؤولية هذه المرة تقع على طاقم الرئيس تبون. كان على هذا الفريق، إن وُجد، ألا يعزل زيارة أردوغان للجزائر عن السياق الإقليمي الموبوء، فينبّه الرئيس إلى ضرورة الاحتياط والحذر في مخاطبة ضيفه. كان عليه أن ينبهه إلى حساسية العلاقات الفرنسية التركية وقابليتها للاشتعال في أي لحظة، فينصحه بتفادي إثارة تاريخ فرنسا بالجزائر. أخيرا، كان عليه أن ينبّه الرئيس، إن كان لا يعرف، إلى «تهوّر» أردوغان دبلوماسيا، والاحتياط من ذلك.
كان الحرج الجزائري واضحا تجاه فرنسا. لكن هناك ما هو أكبر من الحرج: حديث أردوغان عن طلب الوثائق من تبون ينمّ عن أبَوية في غير محلها، ويوحي بأنه كان في حضرة رئيس دولة منقوصة السيادة، لا تملك شجاعة المطالبة بحقوقها فتولّى هو هذه المهمة.
لكن رد الفعل لم يذهب إلى حد تكرار موقف أويحيى المتشدد، لأن النظام الحاكم لم يُحسّن وضعه الاستراتيجي، ولأن الظروف تغيّرت والعلاقات الجزائرية التركية على وشك انطلاقة جديدة. هذا ناهيك عن أن تبون ليس في جرأة أويحيى.