عصام نعمان / كاتب لبناني
أبرز الرؤساء في العالم حضوراً على شاشات التلفزيون هذه الأيام هو رجب طيب أردوغان . يبدو للمشاهدين أنه يواجه وحده قادة روسيا وأمريكا وأوروبا، ناهيك من سوريا وإيران. يتصل بالرئيس فلاديمير بوتين راجياً عقد قمة معه، حيثما يريد، لكنه يصرّ على أن طائراته الحربية تقصف وحدات الجيش التركي، في محيط مراكز المراقبة التركية في محافظة إدلب. يهدد سوريا باستهداف «عناصر حكومتها»، ويعاود إغراق دول اوروبا بعشرات آلاف السوريين اللاجئين اضطراراً إلى دياره.
ماذا يريد الرئيس التركي وماذا لا يريد؟
يريد أن يبقى في غرب سوريا وفي شرقها، بدعوى مواجهة الكرد السوريين الذين يبتغون، في زعمه، إقامة دولة على طول حدود تركيا مع سوريا، من الحسكة شرقاً إلى عفرين غرباً. يريد إقامة «مناطق آمنة» بعمق لا يقلّ عن 30 كيلومترا في شمال سوريا، لمنع الكرد من تحقيق غايتهم، ولمشاركة الولايات المتحدة في وضع اليد على حقول النفط واستغلالها في تلك المناطق.
يدفع آلاف المسلحين من مختلف الجنسيات، الذين انهزموا في مختلف ساحات سوريا، واحتشدوا في محافظة إدلب إلى القتال في ساحات ليبيا، الغنية بحقول النفط، ولمنافسة دول أوروبا الطامعة باستغلالها وجني عائداتها. يحرص على التواجد بقواته في أراضي سوريا والعراق وليبيا ليضع في يديه أوراقاً لمساومة خصومه ومنافسيه وليس لمقاتلتهم يريد كل هذه الأمور لكنه يحاذر الاصطدام بروسيا وأمريكا وأوروبا. إنه يراوغ ليساوم، لا ليقاتل.
يعقد اتفاقات مع بوتين في سوتشي عام 2018 تقضي بإقامة مراكز تركية في محافظة إدلب، في سياق عملية للفصل بين المقاتلين الإرهابيين والمعارضين السوريين المسلحين، واعداً بإفساح المجال أمام الجيش السوري وحلفائه الروس لضرب فصائل الإرهاب، وطردها من الاراضي السورية، لكنه لا يفي بوعده، بل يسلّح بعض التنظيمات الإرهابية التي غيّرت أسماءها لتوحي بأنها ما عادت إرهابية، ويشدّ إزرها في محاربة الجيش السوري. يقوم بتتريك كل مناحي الحياة، إدارياً وتربوياً واجتماعياً، في المناطق السورية، حيث لتركيا وجود عسكري كعفرين وشمال محافظة إدلب وشرق الفرات. يغري روسيا بالسكوت عن هذه الانتهاكات، لاتفاقات سوتشي بغية الحصول على صواريخ S-400 للدفاع الجوي، مقابل تسهيل مرور خط «تورك ستريم» لنقل الغاز الروسي عبر أراضي تركيا إلى دول أوروبا.
روسيا تعتبر وجود تركيا في شمال سوريا وغربها تهديداً لها، وخطراً على قاعدتها البحرية في طرطوس
موسكو تتغاضى عن انتهاكاته، لظنّها أنها بتسليح جيشه تشجعه على الخروج تدريجياً من حلف شمال الأطلسي، إلى أن تكتشف، متأخرة، أنه يغشها وأنه يراوغ ليساوم على مكاسب أخرى أكبر وأخطر.
مع الولايات المتحدة ، يلعب اردوغان لعبة مغايرة وجريئة. يوحي لرئيسها ترامب، الممالئ لـِ»إسرائيل» ، أن إقامة «مناطق آمنة» في شمال سوريا وبقاء قوات لتركيا ولحلفائها في إدلب يسهم في تفكيك سوريا وتقسيمها، الأمر الذي يخدم مصالح أمريكا و»إسرائيل». ترامب ونتنياهو يسعدهما ذلك، بطبيعة الحال، لكنهما يحاذران أن يتورطا في منازعة مع روسيا التي لها مصالح استراتيجية في سوريا، ما يحملها بالتأكيد على التصدي لمطامح اردوغان ومطامعه الجامحة.
روسيا بدأت، في الواقع التصدي لأردوغان، هي أعلنت حرصها على دعم سوريا في تحرير اراضيها من اي احتلال وبسط سيادتها عليها، وهي في هذا السياق تعتبر وجود تركيا في شمال سوريا وغربها تهديداً لوحدتها وسيادتها، بل ترى في ذلك خطراً على قاعدتها البحرية في طرطوس، وقاعدتها الجوية في مطار حميميم. لذلك ضاعفت دعمها العسكري، الجوي والبري، للجيش السوري في حملته الجادة لتحرير محافظة إدلب من التنظيمات التي تدعمها انقرة. وليست الضربة الموجعة التي سددها سلاح الجو الروسي للقوات التركية في محيط مدينة سراقب، وادّت إلى مقتل عشرات الجنود الأتراك، إلاّ الدليل الساطع على عزيمة موسكو الجادة في هذا السبيل.
يبدو أن اردوغان أدرك أخيرا المخاطر التي تحيق بمطامعه ومطامحه الجامحة، وبات جاداً في استرضاء موسكو، لتفادي دعمها الميداني المتصاعد للجيش السوري في إدلب.
ولعله أدرك أيضاً أن أمريكا و»إسرائيل» تحسستا أخيراً خطراً آخر مقلقا وماثلاً، هو مضاعفة الوجود العسكري الإيراني في سوريا، للردّ على التوسع التركي المهدد لوحدة حليفتها الاثيرة في محور المقاومة وفي مواجهة أمريكا و»اسرائيل»، هكذا يجد اردوغان نفسه محكوماً بمفاوضة موسكو واسترضائها لتفادي تداعيات خذلانه من أمريكا الحريصة على أمن «إسرائيل»من مخاطر تكثيف إيران وجودها في سوريا، كما لتفادي مخاطر ابتزاز اوروبا المتخوّفة من سيل اللاجئين السوريين المتدفق إلى ربوعها.
هل يتعقّل اردوغان؟