عادل بن حمزة ، كاتب و محلل سياسي
نجح المخرج الأميركي آدم مكاي عبر فيلمه “لا تنظروا إلى الأعلى” في بناء توليفة بين السينما والسياسة عبر النقد الأخلاقي لهيمنة التافهين على مفاصل السلطة والإعلام في المجتمعات الحديثة، كما أنه جسد إلى حد كبير الأفكار التي عبر عنها عالم السياسة الكندي آلان دونو في كتابه المهم La médiocrité الصادر عام 2015 والذي فصل فيه حكم التافهين.
فيلم آدم مكاي الذي لعب فيه دور البطولة كل من ليوناردو ديكابريو وجينفر لورانس؛ بغض النظر عن النجاح التجاري الذي حققه على منصة “نتفليكس” بعدد مشاهدات فاق في الأيام الأولى 250 مليون ساعة مشاهدة حيث تصدر نسب المشاهدة في 100 دولة، فإنه وضع علامة استفهام كبيرة حول تمثل التافهين الحائزين على السلطة للمخاطر الجدية التي تهدد العالم في ظل التحولات المناخية التي لا تخفى آثارها على الكرة الأرضية نظير توسع ثقب الأوزون الذي ينتج عنه منذ عقود ارتفاع درجات الحرارة وعدم انتظام الأمطار، وما يرافق كل ذلك من فيضانات وحرائق وعواصف ودورات جفاف حادة وشح للمياه في عدد من أرجاء المعمورة بما يمثله ذلك من خطر أكيد على الجنس البشري والسلم العالمي.
وحدهم التافهون الذين ينشطون في التنظيمات الشعبوية المعاصرة، من لا يرون ضرورة في التعاطي الجدي مع كل ما يقدمه العلم والواقع من دلائل تحتاج إرادة سياسية وقرارات حاسمة في التوقيت المناسب الذي يعطي لتلك القرارات الجدوى والأثر المطلوبين. لقد نجح فيلم آدم مكاي بهجائه الساخر واعتماده الكوميديا السوداء، في تعرية تفاهة السياسيين والإعلام أمام موضوع التحول المناخي، حيث توجه بالنقد اللاذع للجميع، خاصة السياسيين ومالكي مواقع التواصل الاجتماعي التي تهتم بالإثارة والأمور التافهة.
تروي قصة الفيلم اكتشاف كيت ديبياسكي، وهي طالبة دكتوراه في علم الفلك، لجرم كبير يتحرك بسرعة كبيرة، وبحسابات رياضية تمكن عالم الفلك رندال ميندي الذي تعمل ديبياسكي ضمن فريقه في جامعة ميشيغن، من التأكد بأن ذلك الجرم الكبير الذي يفوق طوله ستة كيلومترات، يسير إلى الاصطدام بالأرض في غضون ستة أشهر وبضعة أيام، وأنه إذا لم يتم تفجيره في الفضاء الخارجي للأرض، فإن الحياة فوق كوكبنا ستصبح أثرا بعد عين.
هذه الخلاصة العلمية الصادمة دفعت العالمين إلى اللجوء إلى البيت الأبيض ووضع رئيسة الولايات المتحدة الأميركية، بوصفها زعيمة للعالم، أمام هذا الخطر المحقق، أملا في سرعة اتخاذ قرار سياسي لتوظيف الأسلحة الفتاكة التي تتوافر عليها الإدارة الأميركية.
تمكن العالمان فعلاً من الوصول إلى المكتب البيضوي، وبعد مواقف ساخرة توضح تفاهة السياسيين ومساعديهم في البيت الأبيض؛ خاصة في إعطاء الأولوية لأمور تافهة بدلاً من الاهتمام بالخطر الذي يمثله الجرم، تمكن العالمان من بسط الوضع أمام رئيسة الولايات المتحدة مرفوقة بمدير مكتبها وكبار موظفي البيت الأبيض. أظهر الفيلم كيف كان الحضور في المكتب البيضوي على طرفي نقيض.
السياسيون وبغض النظر عن أنهم اعتبروا الأمر مثيراً ومسلياً، فإنهم قاموا باحتساب المكاسب والخسائر التي يمكن جنيها من خروج قصة الجرم إلى الرأي العام على بعد أسابيع قليلة من موعد الانتخابات الرئاسية، وانعكاس ذلك على حظوظ التجديد للرئيسة. أما العالمان فكانا في حالة هستيرية غير مصدقين لما يجري أمامهما، وحتى عندما تم تأكيد مخاطر اصطدام الجرم مع الأرض من قبل مراكز بحثية تابعة لجامعات النخبة مثل هارفارد، واتخاذ قرار تفجير الجرم في الفضاء من قبل وحدة خاصة في الجيش الأميركي، فإن تعاطي سياسيي البيت الأبيض لم يتغير، إذ استمر المنطق الانتهازي التافه نفسه من خلال التفكير في استثمار ما تم تصويره على أنه حزم الرئيسة وجديتها من أجل حماية الأرض والإنسانية في الحملة الانتخابية، بل بلغ الأمر حد إلغاء عملية التفجير في آخر لحظة بسبب مقترح مجنون لأحد الفاعلين الكبار في التكنولوجيات الحديثة الذي لم ينظر للجرم سوى كثروة هائلة تتمثل في كون تركيبته تتضمن الكثير من المعادن النفيسة. لذلك اقترح تجهيز مُسيّرات عملاقة يتم وضعها على الجرم لتحدث سلسلة انفجارات تجعل الجرم يسقط مجزأ في أطراف الأرض ويتم بعد ذلك استرجاعها من قبل الجيش الأميركي.
كان الجرم يقترب أكثر من الأرض، وعوض أن يسلط الإعلام الضوء على ذلك ظل منشغلا بقضايا هامشية وتافهة بل اتخذ زاوية الإثارة في معالجة كل ما يتعلق بالموضوع. وخلال الفترة الطويلة التي اتخذها مسار اتخاذ القرار من قبل سياسيين تافهين كان الجرم يواصل مساره. ولأن السياسيين في البيت الأبيض اقتنعوا بالحقيقة فإنهم ظلوا حبيسي منطق انتهازي رهين بحسابات سياسية وانتخابية صغيرة لا قيمة لها أصلاً في ظل عالم سيختفي قريباً، وقد تفتقت عبقريتهم على رفع شعار “لا تنظروا إلى الأعلى” في محاولة للهروب من الحقيقة التي سرعان ما سيكتشفها الناس لأن الجرم صار بالإمكان رؤيته بوضوح بالعين المجردة.
فشلت محاولة إحداث سلسلة من الانفجارات داخل الجرم وتحولت شظاياه إلى كتل من النار دمرت الحياة على الأرض، كما توقع العالمان رندال ميندي وكيت ديبياسكي. كانت تلك النهاية المنطقية لسيادة التفاهة في مواقع القرار.