بقلم سمير بنيس ، مستشار سياسي بواشنطن
مباشرة بعدما قام الرئيس الكيني بحذف التدوينة التي أكد فيها عل قطع العلاقات مع الجمهورية الورقية، تناسلت العديد من التدوينات التي كان قاسمها المشترك هو الادعاء بأن حذف التدوينة يعتبر في حد ذاته دليل على تشبث القيادة الكينية الحالية بالموقف الذي اعتمدته كينيا منذ عام 2014.
أعتقد أنه ينبغي عدم المسارعة في كل مرة إلى التقليل من هذا القرار أو ذاك والأخذ في عين الاعتبار بأن كينيا دولة ديمقراطية ودولة مؤسسات وأن قرارات من هذا الحجم لا يتم أخذها في وسائل التواصل الاجتماعي وأن ما يهم في العلاقات بين الدول هي الوثائق التي يتم الاتفاق أو التوقيع بين طرفين ما. ولا ينتابني أي شك بأي كينيا قد قامت بالفعل بتغيير موقفها من الملف. وإن خير دليل على ذلك، البيان الذي أصدرته قيادة مليشية البوليساريو في نفس اليوم الذي أعلن فيه الرئيس الكيني عن الموقف الجديد لبلاده. بل حتى رئيس السابق، Winnie Odinga اضطر إلى إصدار بيان رسمي نفى فيه ما تناقلته وسائل الاعلام الكينية بخصوص انتقاده المزعوم للموقف الجديد الذي تبناه الرئيس الكيني. واعترف هذا المسؤول السياسي بأن العلاقات بين المغرب وكينيا ستعود بالفائدة على البلدين. وقد حصلت شخصياً على معلومات جد دقيقة وموثوقة تفيد بأن تغيير الموقف الكيني أصبح واقعياً.
كما علينا عدم السقوط في التناقض حينما نقوم بتحليل مواقف الدول من قضية الصحراء المغربية. فنفس الأطراف التي شككت في تغيير الولايات المتحدة الأمريكية لموقفها وقللت من شأن القرار الذي اتخذه الرئيس السابق دونالد ترامب باعتباره لا يكاد يكون تغريدة، تأتي الآن وتقول بأن إقدام الرئيس الكيني على حذف تدوينته يعني أنه لا ينوي تغيير موقف بلاده من النزاع. على كل من يشارك في هذا النقاش السياسي أن يتحلى بالاتساق وتوازن المواقف.
ولعلى ما تغاضى عنه كل من شكك في تغيير الموقف الكيني هو أن طالما أن الرئيس الكيني قال بأن بلاده تدعم العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة باعتبارها الآلية الوحيدة بالتوصل لحل سياسي، فذلك يعني أن كينيا لم تعد تعترف بالجمهورية الورقية. فالدول التي تعترف بهذا الكيان الجزائري الصنع لا تتحدث عن العملية السياسية الأممية. وما يهم هو ما قاله الرئيس الكيني بخصوص هذه العملية. فلو كانت الدولة الكينية متشبثة بموقفها السابق، لما أكد رئيسها الجديد على مركزية العملية السياسية في التوصل لحل نهائي لهذا النزاع المفتعل. وحتى تتأكدوا مما أقوله، قارنوا ما قاله مع اللغة التي تستعملها الدول التي تعترف بالكيان الورقي.
وهنا علينا ألا ننسى أن هذه ليست هي المرة الأول التي تقرر فيها كينيا وقف علاقاتها مع صنيعة الجزائر. فقد سبق وقامت بذلك عام 2006 وتشبثت بنفس الموقف حت عام 2014. إلا أن الفرق بين هذه المرة والمرة الأخيرة وهي التغيرات الجيوستراتيجية التي وقعت في افريقيا وفي العالم والدول المحوري الذي أصبح يلعبه المغرب في افريقيا جنوب الصحراء بفضل الدبلوماسية الملكية وتعزيز القوة الاقتصادية للمغرب ليس فقط دول غرب افريقيا، بل كذلك في دول شرق افريقيا. ولا أتكلم من فراغ. فبالإضافة إلى تموضع العديد من كبريات الابناك والشركات المغربية في أسواق العديد من الدول الافريقية، فإن الورقة الرابحة التي تشكل العلامة الفارقة التي تلعب وستلعب في السنوات القادمة لصالح المغرب فهي ورقة الفوسفاط. وهذه نقطة مهمة ينبغي لكل مغربي أن يكون عل علم بها. وأخذها في عين الاعتبار لمعرفة الأسباب التي ستدفع العديد من الدول في المستقبل الحذو حذو كينيا.
فنحن نعيش في عالم أصبحت فيه مسألة تحقيق الأمن الغذائي هي هاجس العديد من الحكومات عبر العالم، خاصة في افريقيا وأمريكا اللاتينية والعديد من الدول الاسيوية. وهنا سيتجلى الدول الذي سيلعبه المغرب خلال السنوات والعقود القادمة (والذي يمكن أن نقارنه بالدول الذي لعبته المملكة العربية السعودية لعدة عقود فيما يتعلق بالنفط). فحتى تتمكن أي دولة من تحقيق الأمن الغذائي، فعليها أن تتبنى تقنيات حديثة في الانتاج الزراعي عل أهمها استعمال الاسمدة للرفع من مستوى الانتاج الفلاحي. وإن البلد الوحيد في العالم الذي يتوفر على قدرة لا تضاهى في إنتاج الفوسفاط والأسمدة هو المغرب. وبفضل الجهود الجبارة التي قامت بها مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط منذ عقدين للرفع من مستوى إنتاج الاسمدة، فقد أصبح المغرب هو الوجهة الرئيسية لكل الدول التي تعاني من انخفاض في مستوى الانتاج وتسعى للرفع من إنتاجها الزراعي من أجل تحقيق أمنها الغذائي.
وتعتبر كينيا من بين الدول التي تعاني في الوقت الراهن من انخفاض غير مسبوق في مستوى الانتاج الزراعي، لدرجة أن الملايين من الكينين أصبحوا تحت تهديد الجوع. ويعزى هذا الانخفاض إل الارتفاع المهول في أسعار الاسمدة في الأسوق الدولية بسبب الحرب في أوكرانيا. وقد تسببت هذه الحرب في أسعار هذه الاسمدة بنسبة ما يزيد عن 200 في المائة. وأمام ارتفاع أسعرا الاسمدة، اضطر العديد من المزارعين الصغار في كينيا (والذين يشكلون العمود الفقري للقطاع الزراعي الكيني) إلى خفض المساحات المخصصة للإنتاج الفلاحي. وقد أدت هذه الخطوة التي أُجبر المزارعين الصغار في كينيا على اتخاذها إلى انخفاض مستوى الإنتاج الزراعي في البلاد، مما أدى إلى ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية وفي شح الإنتاج الزراعي، مما سيؤدي لا محالة إلى تهديد الأمن الغذائي للبلاد. عل سبيل المثال، تعاني كينيا في هذه الفترة من خصاص كبير عل مستو الذرة التي تعتبر أهم مادية حيوية يستهلكها الكينيون.
ولأخذ فكرة عن أهمية الأمن الغذائي بالنسبة لهذا البلد، فهو تعتبر من بين الأولويات الأربعة التي سيعمل الرئيس الكيني الجديد على تحقيقها. ويعلم الرئيس الكيني علم اليقين أن تحقيقه لهذا الهدف رهين بحصوله عل الأسمدة بأثمنة مناسبة من شأنها أن تساعد المزارعين على استرجاع مستوى الإنتاج الذي اعتادوا عليه قبل الحرب الأوكرانية، بل والرفع منها. وإن البلد الوحيد الذي يمكنه مساعدة كينيا على تحقيق أمنها الغذائي، والذي أظهر منذ سنوات على حسن نيته تجاه العديد من دول افريقيا جنوب الصحراء وعن نيته الصادقة في العمل معها يد في يد من أجل مساعدتها على التخلص من التبعية للخارج في هذا المجال، هو المغرب.
إن تقلبات الزمن جعلت المغرب في موقف سيعطيه مزيد من النفوذ والقوة من أجل الحفاظ على وحدته الترابية وتعزيز مكانته الرائدة في افريقيا. علينا أن نعلم أن السياسة التي بدأ المغرب في نهجها في افريقيا لم تأت بمحض الصدفة، بل جاءت بناءً على قراءة استشرافية للتقلبات التي ستقع في العالم في السنوات والعقود الماضية. كما أن المغرب يجني ثمار النظرة الثاقبة للسياسة التي نهجها عاهل البلاد منذ عقدين من أجل مساعدة المغرب على الاضطلاع بالدور الذي يليق به في افريقيا. كما علينا الإشادة بالثورة التي طرأـت على المكتب الشريف للفوسفاط منذ تولي الدكتور مصطفى التراب زمام الأمور في هذه الشركة الحكومية التي تكتسي أهمية استراتيجية بالغة وتعتبر الذراع الرئيسي الذي سيعتمد عليه المغرب على المدى المتوسط والبعيد من أجل تعزيز مكانة المغرب عل المستوى الإقليمي والدولي.
ومن جهة أخرى، علينا ألا ننسى كذلك أن التحول الذي طرأـ عل موقف كينيا جاء كذلك نتيجة للعمل الدبلوماسي الجبار الذي قام به السفير المغربي السابق لدى كينيا، المختار غامبو، الذي بدل جهوداً جبارة من أجل تغيير نظرة الطبقة السياسية والإعلامية والأكاديمية الكينية حول نزاع الصحراء المغربية. وقد استفاد المغرب من دون شك من الوزن الأكاديمي للدكتور غامبو الذي اشتغل لسنوات عديدة كأستاذ بجامعة يال قبل دخول غمار السياسة في بلده الأم والعمل في الميدان الدبلوماسي. وهنا وجب التذكير بأنه كان قد أجرى لقاءات عديدة مع الرئيس الحالي، حينما كان هذا الأخير نائبا للرئيس السابق. وبعد إحدى تلك اللقاءات، أعرب نائب الرئيس آنذاك عن دعمه لمخطط الحكم الذاتي المغربي. ويعتبر ذلك التصريح في حذ ذاته مؤشر على القناعة الشخصية للرئيس الحالي لكينيا بضرورة اتخاذ بلاده لموقف الحياد تجاه هذا النزاع وأن الجهود التي قامت بها الدبلوماسية المغربية كانت في الطريق الصحيح نحو تحقيق اختراق بالغ الأهمية. وبحكم متابعتي اليومية لكل ما يتعلق بالدبلوماسية المغربية وبقضية الصحراء المغربية، فإن شاهد عل ذلك.