عزالدين السريفي
عمود صحفي
ربما يسجل عام 2023 على أنه أكثر الأعوام التي شهدت أحداثا دراماتيكية في تاريخ منطقة الساحل والصحراء منذ بداية ستينيات القرن الماضي إبان حقبة استقلالها عن المستعمر الفرنسي.
ثلاثة ملامح طبعت الأحداث العاصفة التي شهدتها دول المنطقة.
أولها: اضطرابات في الأوضاع الأمنية وتدهور الاقتصاد وحالة عدم استقرار ملحوظة، نتجت عن تراكمات عقود من سوء إدارة الاقتصاد وفساد النخب وعدم نجاعة المؤسسات السياسية بما فيها المنتخبة ديمقراطيا في بعض دول المنطقة.
ثانيا: موجة انقلابات عسكرية في فترة زمنية قصيرة (3 سنوات) شملت ثمان دول أفريقية، معظمها تقع بمنطقة الساحل والصحراء. ويتعلق الأمر بكل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغينيا وصولا إلى الغابون في أقصى جنوب غرب القارة السمراء. إضافة إلى فشل ثلاث محاولات انقلابية في غينيا بيساو وغامبيا وجزيرتي ساو تومي وبرينسيبي الواقعتين قبالة سواحل الغابون. وبينما أفلتت تشاد من حرب أهلية بعد تمرد جماعات معارضة مسلحة، وقع السودان في فخ حرب أهلية ما تزال تحصد آلاف الضحايا.
فكيف كانت تداعيات هذه الأحداث على المنطقة المغاربية التي تشهد من جهتها حالة انقسام شديدة وانسدادا في آفاق التعاون الإقليمي؟
بعد مرور عشر سنوات على إطلاق فرنسا لعملية “برخان” العسكرية في منطقة الساحل، لمكافحة الجماعات الإرهابية، ما تزال المنطقة التي شملتها العملية من مالي وبوركينا فاسو والنيجر وصولا إلى موريتانيا وتشاد، تواجه مزيدا من التحديات الأمنية نتيجة تنامي أنشطة تلك الجماعات وتحولت المنطقة إلى مركز عالمي للإرهاب بعد مبايعة جماعات جهادية تنظيمي “القاعدة” و”تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)”.
وإلى جانب عملية “برخان” كلفت الأمم المتحدة بعثة “مينوسما” (تنتهي مهمتها في ديسمبر كانون الأول 2023) بتحقيق الاستقرار في مالي وجارتها النيجر. ورغم الدعم الأمريكي عبر “أفريكوم” والأوروبي (ألماني وإيطالي) للجهود الفرنسية والأممية، لم تُحرز تقدما في تحقيق الأهداف الرئيسية التي رسمت لها، بل تضاعفت التحديات للنفوذ الفرنسي بالمنطقة، مما دفع باريس منذ سنتين إلى سحب تدريجي لقواتها على وقع مزيد من التدهور الأمني وانقلابات عسكرية متعاقبة بدول الساحل، وتمركز مرتزقة قوات فاغنر في مالي، ووسط تزايد المؤشرات على أدوار روسية بالمنطقة.
وحسب تقرير عن مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2023، تعتبر منطقة الساحل في أفريقيا أكثر مناطق العالم تأثراً بالإرهاب، وكانت مسؤولة عن 43 في المائة من حصيلة القتلى المرتبطة به، بزيادة قدرها 7 بالمائة مقارنة بالعام 2021. وسجلت بوركينا فاسو ومالي الزيادة الأكبر في عدد القتلى ضحايا عمليات إرهابية، بل وأصبحت المنطقة بشكل سريع مسرحاً حيوياً للمنافسة الجيوسياسية العالمية بين روسيا والقوى الغربية، كما يسجل التقرير.
وتكتسي المخاطر الأمنية في منطقة الساحل أبعادا معقدة، إذ تتجاوز المشاكل المرتبطة بنشاط الجماعات الجهادية، لتشمل أنشطة شبكات تهريب للسلاح والبشر والمخدرات. وتصنف بعض مراكز الأبحاث الأمنية والاستراتيجية منطقة الساحل الأفريقي بالأخطر عالميا، كونها باتت تشكل ملتقى طرق لشبكات تهريب عالمية تنشط بين القارات الأمريكية والأوروبية والآسيوية.
وتقع كل من الجزائر وليبيا والمغرب وموريتانيا، في الواجهة المباشرة للمخاطر الأمنية بمنطقة الساحل والصحراء. وزادت التطورات الأمنية الأخيرة، من مخاوف الدول المغاربية من انتقال عدوى أعمال العنف والمواجهات المسلحة ومخاطر تسلسل عناصر إرهابية أو أنشطة شبكات الجريمة المنظمة إلى أراضيها عبر الحدود الممتدة بآلاف الكيلومترات.
وتعتبر الجزائر وليبيا الأكثر عُرضة لهذه المخاطر، ثم تأتي موريتانيا والمغرب فتونس بدرجة أقل.
إذ جاءت ليبيا ذات الأوضاع الأمنية الهشة، في المركز السابع من بين أكثر دول منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط تأثراً بالإرهاب رغم التحسن الملحوظ في الوضع الأمني منذ العام 2019 تقريباً، وفق مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2023. كما يثير وجود عناصر مرتزقة فاغنر في شرق ليبيا هاجسا مستمرا لحكومة طرابلس التي تخشى من أدوارها الخطيرة المحتملة داخل ليبيا وخارج حدودها وخصوصا في الجارتين تشاد والنيجر.
ولم تخف الجزائر مخاوفها من تدهور الأوضاع الأمنية على حدودها مع مالي والنيجر، واضطرت إلى تحريك وحدات من قوات الجيش والأمن لتشديد المراقبة لشريط حدودي يمتد مسافة 1400 كيلومتر مع مالي وألف كيلومتر مع النيجر
ففي الوقت الذي تشهد فيه مجموعة “ج 5” التي تضم موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد، وهي دول مهددة بالفقر المدقع والإرهاب، وكانت تجسد تحالفا فرنسيا أوروبيا مع دول الساحل، تفككا بعد انسحاب دول مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر منها، تضاعف روسيا والصين من جهة محاولاتها للتغلغل في قطاعات استراتيجية كالأمن والطاقة ومواد الخام الطبيعية، كما تبدي الولايات المتحدة وألمانيا مزيدا من الاهتمام بالاستثمار والشراكة مع دول المنطقة.
ورغم أن ألمانيا سحبت بدورها قواتها من النيجر، فقد أبقت على دعمها ومساعداتها الإنمائية لدول المنطقة. وفي يوليو تموز 2023 تولت ألمانيا رئاسة الجمعية العامة لتحالف الساحل التي تعد أهم هيئة دولية لداعمي منطقة الساحل الأفريقي. وأكدت سيفينا شولتسه وزيرة التنمية الألمانية خلال زيارة إلى موريتانيا: “أتولى رئاسة تحالف الساحل لأظهر أن ألمانيا وشركاءها موجودون هناك من أجل المنطقة ويعملون من أجل المنطقة. أولوياتي بالنسبة لمجموعة الساحل هي توفير فرص عمل، والزراعة، والضمان الاجتماعي في المنطقة والحيلولة دون نشأة مساحات لا تخضع لسيادة الدولة“.
وفيما يبدو تحركا باتجاه إنشاء تكتلات اقتصادية بين الدول الأفريقية المطلة على المحيط الأطلسي، قطع المغرب في الأسابيع القليلة الأخيرة أشواطا جديدة في اتجاه حشد الدعم المالي والسياسي لمشروع “أنبوب الغاز نيجيريا – المغرب”. وأكدت المديرة العامة للمكتب المغربي للهيدروكاربورات والمعادن، أمينة بنخضرة، على هامش منتدى الاستثمار الإفريقي المنظم مؤخرا في مراكش، أن “مشروع خط أنبوب الغاز نيجيريا المغرب سيسهل الاندماج القاري الإفريقي”. ووقعت لحد الآن عشر دول من غرب أفريقيا على الانضمام للمشروع الذي يُخطط بأن يعبر 11 دولة
كما احتضنت مراكش الأسبوع الماضي، مؤتمرا أفريقيا على مستوى وزراء الخارجية، شاركت فيه دول من منطقة الساحل، وأعلنت خلاله أربع منها هي بوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد عن “عزمها الانضمام إلى مبادرة أطلقها العاهل المغربي محمد السادس في الآونة الأخيرة وتهدف إلى تعزيز ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي بهدف تطوير التجارة والتواصل بين البلدان الأفريقية“.
وتهدف هذه المبادرة إلى إتاحة “فرص كبيرة للتحول الاقتصادي للمنطقة برمتها، بما ستسهم فيه من تسريع للتواصل الإقليمي وللتدفقات التجارية ومن ازدهار مشترك في منطقة الساحل”، كما ينص بيان مشترك.
وتجري مثل هذه المبادرات في ظل حذر جزائري ملحوظ إزاء تطورات أوضاع دول الساحل وبوادر أزمة ديبلوماسية مع مالي على خلفية استقبال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لأحد أعيان الطوارق تعتبره باماكوا متمردا على السلطة المركزية.
وبمناسبة حلوله ضيفا على إحدى الإذاعات الفرنسية لم يستبعد أحمد ولد عبد الله، وزير الخارجية الموريتاني الأسبق، أن تعترف مالي بمغربية الصحراء، مشيرا إلى أن ثقل العلاقات التاريخية التجارية والإنسانية بين المغرب ومالي تدفع في هذا الاتجاه، ومسجلا في الوقت ذاته أن الرباط واكبت صعود موجات الإرهاب العنيف في المنطقة بإنشاء معهد تدرب فيه الأئمة الماليون، كما شجعت المملكة نشر الإسلامي الوسطي المعتدل في المنطقة.
وأضاف الدبلوماسي الموريتاني الأسبق أن الرئيس المالي الراحل أبو بكر كيتا كان قد أخبره إبان انتخابه في العام 2013 عن رغبته في الاعتراف بسيادة المملكة المغربية على أقاليمها الجنوبية، غير أنه لم يكن يريد، يضيف ولد عبد الله، “إحداث شرخ” في العلاقات مع الجزائر التي تشترك معها باماكو في حدود تمتد لأزيد من 1350 كيلومترا، معتبرا في الوقت ذاته أن “معظم المسؤولين الماليين يريدون حل قضية الصحراء، إن لم يكن بالاعتراف بمغربية الصحراء فعلى الأقل تلافي كل ما يمكن أن يشكك في غير ذلك”.
وبالنظر إلى التحولات التي تعرفها المنطقة، سواء على مستوى علاقات مالي بدول الجوار، خاصة الجزائر، أو المشاكل الأمنية التي يعرفها شمال هذه الدولة التي تخوضها حكومتها حربا مع المقاتلين الأزواديين؛ أضف إلى ذلك انخراطها مؤخرا في المبادرة الأطلسية التي أعلن العاهل المغربي عن إطلاقها في السادس من الشهر الماضي، وأمام الجيل الجديد من الشراكات التي أسس لها البلدان؛ لم يستبعد متتبعون أن تنخرط باماكو في الدينامية التي تشهدها قضية الصحراء وتسحب هي الأخرى اعترافها بالكيان الوهمي.