رئيس التحرير
في ظل ارتفاع حدة الأزمة السياسية بين الجزائر ومالي بعد استدعاء كل منهما سفيره المقيم لدى البلد الآخر، على خلفية استقبال النظام الجزائري لأطراف مالية معارضة، يرجح أن تعيد باماكو ترتيب أولوياتها في السياسة الخارجية باعترافها بسيادة المغرب على صحرائه، خصوصا مع ترحيب هذا البلد كما باقي دول الساحل الأخرى بالمبادرة الملكية القاضية بتمكين دول الساحل والصحراء من الانفتاح على الواجهة الأطلسية.
ولم تعد علاقات مالي والجزائر على ما يرام خلال الأشهر الأخيرة، حيث قررت باماكو سحب سفيرها من الجزائر بشكل فوري للتشاور بسبب تدخل الأخيرة في شؤون مالي الداخلية، والتعامل مع جهات معادية لها، وهو ما دفع وزير خارجية مالي عبدالله ديوب إلى استدعاء السفير الجزائري ليوجه له “احتجاجا شديد اللهجة”، كما نشرت وزارته بيانا يؤكد أن العلاقات بين البلدين بلغت درجة كبيرة من السوء.
وانفجرت الأزمة بعد استقبال الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون في العاصمة رجل الدين المالي، الإمام محمود ديكو، المعروف بانتقاده الشديد للجيش والانقلابات العسكرية المتكررة التي يقودها في البلاد، كما استقبلت الجزائر قبل أيام قليلة عددا من قادة الحركات المسلحة في شمال مالي، ما تسبب في تبادل التهم والشتائم بين إعلام البلدين.
محمد لكريني: مالي قد تعترف بالوحدة الترابية للمغرب
وتزامنا مع بلاغ خارجية مالي، الذي ورد فيه خبر سحب السفير من الجزائر للتشاور، بصم وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي بمالي على حضوره في القمة التي عقدت بمراكش، في 23 دجنبر 2023، بشأن مبادرة الأطلسي التي أطلقها العاهل المغربي الملك محمد السادس، حيث أكد خلال لقائه مع وزير الشؤون الخارجية ناصر بوريطة أن “المبادرة الملكية تمثل عاملا هاما قادرا على تقديم رد اقتصادي وجيوسياسي للانشغالات المرتبطة بالسلام والأمن”، مشددا على “ضرورة احترام سيادة البلدان، والخيارات الإستراتيجية لمالي وشركائها”.
وفي إطار تغليب مصلحة وسيادة الشعوب أكد بوريطة، في تصريحات سابقة، أن المغرب يعتبر أن الماليين قادرون على حلحلة مشاكلهم، وليسوا بحاجة إلى تدويل وضعيتهم، مشيرا إلى أن العبقرية المالية أثبتت قدرتها على جعل المصالح العليا لمالي فوق كل الاعتبارات.
وتوقع أحمد ولد عبدالله، وزير الخارجية الموريتاني الأسبق، في حوار مع إذاعة فرنسا الدولية، أن تعترف مالي بمغربية الصحراء، مشيرا إلى أن ثقل العلاقات التاريخية والتجارية والإنسانية بين المغرب ومالي يدفع في هذا الاتجاه.
وأكد ولد عبدالله أن العلاقات بين باماكو والجزائر باتت على المحك، ولهذا تعيد مالي ترتيب أولوياتها في السياسة الخارجية، حيث صارت أقرب إلى المغرب وابتعدت أكثر عن الجزائر، وبالتالي أصبحت قريبة من الاعتراف الرسمي بالسيادة المغربية على الصحراء.
وقال محمد لكريني، أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي، إن “ما وقع بين الجزائر ومالي يمكن اعتباره بلغة العلاقات الدولية فرصة للاعتراف بالوحدة الترابية المغربية خصوصا وأن الجزائر استقبلت المعارضة المالية التي تهدد أيضا الوحدة الترابية لمالي”.
المملكة قامت كوسيط موثوق بالعمل على حل أزمة مالي واحتضان لقاءات المصالحة والإنصاف
وأضاف أن “هذا الأمر قد يدفع باماكو إلى سيناريوهين، الأول قد تعترف مالي بالوحدة الترابية للمغرب بشكل واضح من خلال رد فعل يتماشى مع تصعيدها الدبلوماسي مع الجزائر، أما السيناريو الثاني فقد يأخذ بعين الاعتبار الحدود المشتركة بين مالي والجزائر الممتدة إلى حوالي 900 كيلومتر والتي تعرف تحديات أمنية خطيرة مرتبطة بالجماعات المسلحة وتهريب الأسلحة وتجارة المخدرات فضلا شبكات الهجرة غير الشرعية، ومن ثمة قد تمتد الأزمة الدبلوماسية بين البلدين لفترة معينة وقد تعود إلى سابق عهدها”.
كما يعتقد أستاذ القانون الدولي أن “ذلك يعزز علاقات المغرب مع مالي اللذين تجمعهما مجموعة من روابط التعاون والتضامن، إلى جانب الحضور القوي للدبلوماسية الدينية في هذا البلد وغيره من البلدان الأفريقية الأخرى”.
وأكدت دبلوماسية باماكو، في محطات مختلفة، على أنها لن تتخذ أي موقف يمس بمصالح المغرب، مشيرة إلى دعمها للمسار الأممي والجهود الدولية للوصول إلى حل سياسي واقعي ومستدام.
وقامت المملكة كوسيط موثوق بالعمل على حل أزمة مالي واحتضان لقاءات المصالحة والإنصاف، وتعتبر الحركة الوطنية لتحرير أزواد حركة لها وزنها ويمكن أن تساهم بتنسيق مع حركات أخرى في توطيد أسس الدولة المالية الموحدة التي يسعى المغرب إلى ازدهارها وتقدمها.
وراكمت الدبلوماسية المغربية مكاسب عديدة داخل مالي سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وزيارة الملك محمد السادس إلى باماكو عامَي 2013 و2014، التي وقّع فيها الطرفان 17 اتفاقية في مختلف القطاعات، مثال حيّ على قوة العلاقة بين مالي والمغرب، وجعلت هذه العلاقة مالي الوجهة الثالثة للاستثمار المغربي في أفريقيا والمستفيد الثاني من المنح التدريبية المغربية في القارة.
ويرى خبراء في العلاقات الدولية أن المملكة ملتزمة بإرساء أطر وسياقات نهوض هذا البلد وأمنه لكونه سيساهم في استقرار المنطقة وعدم انزلاقها إلى حروب أهلية تستفيد منها الجماعات المتطرفة، في إطار التعاون جنوب – جنوب، كما أن دور المغرب في تعزيز هذا التعاون كخيار إستراتيجي يستند إلى التوجيهات الملكية الرامية إلى التوجه نحو العمق الأفريقي، كما ينسجم مع الجذور التاريخية التي تربط المملكة بالمجال الأفريقي.
ماذا يخيف النظام الجزائري في الرسائل المغربية، أليس يمارس أعمال الدبلوماسية مع الدول الصديقة و الشقيقة وتحث على السلام دبلوماسيا لكل المكائد ومحاولات الخصوم للنيل من الأمن القومي للدول الصديقة و الشقيقة؟
لم تحمل الرسالة أي ضغينة، إنها رسالة حضارية بلا دبابات ولا صواريخ. فكيف يمكن لرسالة أن تثير الأعصاب إلا إذا كانت قد ضغطت على المنطقة الحساسة في نظام الجنرالات؟ هذا النظام الذي لم يبتكر بعد لغة دبلوماسية راقية في التعامل بذكاء مع السياسة والساسة، بل يأمر إعلامه المبرمج بتأليب الرأي العام ضد المغرب منذ مدة طويلة. رسالة المملكة التي من الواضح أنهم لم يقرؤونها بعناية وبايجابية بل بعين يملؤها من الحنق الشيء الكثير لتنطلق السهام.
المملكة ليست في حرب ضد أي دولة أو نظام، وإنما تحمي حقوقها وحدودها وتنتصر للاستقرار والسلام، الواضح أن الجارة الجزائر تقلب الحقائق بلا شفافية فهي التي ساهمت في ولادة البوليساريو وزودتها بوسائل العيش والنمو بشرط الامتثال لأجندة الجنرالات العسكرية، بمقتضى أن هذا النظام ليس جمعية خيرية تتصدق على من توهموا أنه بالإمكان خلق كيان بعد اقتطاعه من أرض المغرب، وكأنها خلاء لم تكن تحكمها قوانين وأعراف مغربية، واعتبار هذا الكيان الوهمي دولة. لا يمكن للنظام الجزائري أن يرافع في قضايا غيره المصيرية، وهو الذي ينقضها فحق تقرير المصير الذي صدعوا به رؤوسنا مساره أعدم منذ زمن. ولنسائل دبلوماسية الجنرالات كيف كان موقفهم من حق تقرير الشعب السوري لمصيره؟
الترويج للنموذج المغربي دوليا ليس حراما، إنها ممارسة السياسة بأصول الشرف والوضوح، إذ أن الرسالة الملكية الموجهة إلى اجتماع للسفراء المغاربة الذي نظم بمقر وزارة الخارجية تُلِيَتْ أمام الملأ كردّ على كل الضغوط التي تُمَارَسُ ضد المغرب في قضيته الوطنية، سمعها وقرأها الجميع وهي تؤكد على الاستثمار الاقتصادي والثقافي والسياسي خدمة للإنسان المغربي من شمال المغرب إلى جنوبه. الصحراء المغربية قضية وطنية تقاربها المملكة بوسائل دبلوماسية، وبما أنها كذلك فمن باب أولى الاهتمام بها وحمايتها كمصلحة عليا للمملكة، ليس بالصواريخ الباليستية أو 16F والراجمات وإنما بتعزيز وتقوية علاقات المغرب الدولية، وليس إرهاقه باختلاق الحروب وتمويل المجموعات المارقة. النموذج المغربي أخذ طريقه في الإصلاح منذ زمن بعيد وبتؤدة، يقارب السياسي والاقتصادي والاجتماعي بحس وطني، ويمكن اعتبار هذا النموذج بضاعة قابلة للتداول والإفادة منها كل على قدر حاجته. هنا أؤكد على نبل الفروسية في الرسالة الملكية، حيث لم تصف النظام الجزائري بالعدو وإنما الخصم، وهذه تدخل في اللغة الدبلوماسية المشبعة بالحكمة، لغة لا مبرر للخصم فيها أن يدخل في حالة هيجان. لقد دأب النظام الجزائري على وضع نفسه ندّا للمغرب ومارس جميع الألاعيب، متوهما أن العالم برمته لا يرى سوى بترودولار جزائري. إن التدخل في شؤون الغير تحت دعوى أنه دفاع عن تقرير مصير ما أطلق عليه هذا النظام، الشعب الصحراوي، فمن أعطاكم الحق في تقرير حقوق الآخرين ومصائرهم ولنفترض جدلا أن هذه عقيدتكم، فهي حق أريد بها باطل سياسي محض.
لا تحاججوننا بمخاطر التدخل الأجنبي وانتهاكاته ونهبه للثروات، فالمغرب دفع أثمانا باهظة في دفاعه المستميت على استقلال الجزائر ولم يطعنها في الظهر، انطلاقا من الأخوّة وحق الجار. وسياسيا كانت نظرة المغرب دائما ما تحركها المصلحة الكبرى لشعوب المنطقة، والرسالة الملكية التي وجدها الجزائريون مستفزة تدعو إلى رغبة المغرب النابعة من صدق مسعاه في تفعيل وحدة المغرب الكبير، وتوجيه جهود الدبلوماسية المغربية في تحدي عراقيل إتمام هذا التكتل المهم لشعوب المنطقة.
جبهة البوليساريو تتآمر على المغرب بدعم من النظام الجزائري، والكل يعرف هذا التوجه، ومن واجب الدبلوماسية المغربية الوطني أن تحاصر هذا الكيان الذي ثبت أنه مرتع للفساد والإفساد والاتجار في كل ما هو خارج القانون. الرسالة الملكية لا تخيف إلا من يبيّت النوايا السيئة فهي موجهة إلى الدبلوماسية المغربية تحثها على إسراع الخطى نحو إبداع وسائل مبتكرة للدفاع عن البلد، وفتح ورش الدبلوماسية لتطعيمه بأدوات فاعلة ومنطق متجدد فماذا يقدم الآخرون لشعبهم؟
أنا أرى أنه هروب إلى الأمام بتحميلنا أسباب فشلهم، ينبغي إذن في هذا الظرف الدقيق الاحتفاظ بالهدوء والترفع على ممارسات غاية في القدم، تشي بأن هؤلاء لا يعون أن هناك جارا مغربيا فيه أشياء تتغير وبرامج تتزين بلباس التطور وأوراش بدأت لكي تسير في خطوات نحو المستقبل، وهو يعي معنى التكتلات الاقتصادية والسياسية ومغزى الالتزام بنهج الاعتدال خدمة للاستقرار وجلبا للاستثمار، إنه جوهر الرسالة الملكية لمن يقرأ المستقبل وله سمع وبصر وبصيرة يسمع ويرى ويعي بأنها ليست دعوة للحرب أو للاستفزاز، فالمغرب بكل مكوّناته لا يريد تبذير قدراته وطاقاته الذاتية في ما لا طائل من ورائه.
ما يخيف نظام الجنرالات في الجزائر، هو التطور الذي يعرفه المغرب حتى ولو كانت بخطوات ليست سريعة لكنها محسوبة ومتوازنة تخيف من ألِفَ محاصرة أبناء المغرب في الصحراء عبر البوليساريو، والابتعاد بمبادرة الحكم الذاتي الموسع من على طاولة الحل السياسي الذي باركته كل القوى الدولية لرجاحته وواقعيته