احمد نور الدين
بعد حوالي 97 يوما من الاحتجاجات الحضارية في إطار الدستور والقانون، والتي يخوضها أهلنا في مدينة فكيك المناضلة، ضدّ تفويت تدبير الماء إلى “شركة الشرق”، ها هي الوقائع تُصدّق حدس المواطنين ووعيهم العالي، فبعد أن انفجرت قنبلة اعتقال رئيس جهة الشرق على ذمة التحقيق في قضية المخدرات أو ما أضحى يسمى “إسكوبار الصحراء”، جاء الدور على رئيس “مجموعة الجماعات بالجهة الشرقية” التي تُشرف على “شركة الشرّق” لِيقدم استقالته بسبب تنافي المهام! فإذا كان هذا التنافي معروفاً لحظة انتخابه أو بالأحرى “تعيينه” فتلك مصيبة، أما إذا كان التنافي قد خفي على سلطات الوصاية، وهي التي من المفترض أن تسهر على تطبيق القانون، وخفي على المجالس المنتخبة في أزيد من 133 جماعة ترابية، فالمصيبة أعظم. وفي ذلك جلاء لحجم الارتجالية في تدبير الشأن العام على مستوى المجالس الجهوية منها والإقليمية والمحلية، وهو أمر يهدد استقرار المؤسسات المنتخبة وأمنها القانوني، مما يستدعي تدخل السلطات المركزية لترتيب الجزاء أو الإعفاء.
ما وقع يدق ناقوس الخطر وينبه إلى الأخطاء الناجمة عن التسرع في مشروع تفويت قطاعات استراتيجية تعتبر العمود الفقري لمهام المجالس المنتخبة المحددة بموجب القانون 14-113، فتدبير الماء يعتبر من الخدمات العمومية الأساسية التي على المجالس المنتخبة أن تقدمها للمواطن، وقد ذهب أحد الأكاديميين إلى درجة وصف فيها القانون 83-21 المنشئ للشركات الجهوية للتوزيع بأنه غير دستوري.
إنّها هرولة غير مبررة نحو التفريط في مكتسبات تعب عليها المواطنون، وساهموا في إنجازها بأموالهم وجُهدهم منذ بداية الاستقلال، حتى إذا استوت، جاء من أقصى الليبراليين من يريد تقديم هذا التراث المادي واللامادي على طابق من ذهب إلى شركة لا زالت في طور التجريب. إنها هدية مَنْ لا يملك لمن لا يستحق.
نحن أمام مدينة لها خصوصيتها كواحة، ولها خصوصيتها الأنثربولوجية من حيث أنّ مياه العيون والفرشة المشتركة هي ملكية خاصة للسكان، ولها خصوصيتها كمدينة محاصرة من ثلاث جهات بجارة السوء التي سلبتها 90% من أراضيها، واليوم تحاول سلبها مياهَها عبر حَفر آبار ارتوازية في المحيط المباشر لفكيك، مما سيعجل من تجفيف الفرشة المائية لمدينة فكيك وتوجيهها نحو مدينة بشار خلف الحدود.
فِكيك مدينة شهيدة ومنكوبة تستحق إيلاءها عناية خاصة واستثمارات خاصة في إطار قانون للمناطق الحدودية والمناطق المنكوبة، لا أنْ نُضاعف مآسيها بِسلب ممتلكاتها وتبخيس نضالاتها. فِكيك لازالت تنتظر تعويض أهاليها عن ممتلكاتهم التي سلبتها الجزائر وأقرها المغرب باتفاقية 1972، وعن ممتلكات واحة العرجا حديثة العهد بالإغتصاب سنة 2021. فِكيك لازالت تنتظر جبر الضّرر الجماعي الذي أوصت به هيئة الإنصاف والمصالحة.
فِكيك لازالت تنتظر الإفراج عن المستشفى وتعيين الأطباء، وتنتظر رفع “الفيتو” عن نواتها الجامعية.. فَكيفَ تُجهزون عليها، وَيْحَكُم، بمُقرّر يسلبها ماءها، وآخر السهام في كنانتها؟!
الماء جوهر فكيك الفردُ وسرّ وجودها، وشركات التوزيع لازالت في طور التجريب، ومعنى ذلك أنها قد تفشل وقد تنجح، فإذا نجحت آنذاك يمكن التعميم على كل الجماعات في الوطن، أما إذا فشلت فيا خيبة المسعى و”اللي فرّط يكرّط”. فلماذا تُجبر فكيك كُرهاً على الانضمام إلى تجربة رفضها المجلس الجماعي بالإجماع يوم 26 أكتوبر قبل تلقي التعليمات، ضداً على القانون وضداً على إرادة أهلها؟
رجاء لا تجعلوا من فكيك فأراً للتجارب، فقد أثقلتها تجارب الحروب مع الغزاة المعتدين من الأتراك إلى الفرنسيين وصولاً إلى غدر الجيران في حرب الرمال. فِكيك أثقلتها تجارب “سنوات الرصاص” التي لا تزال جرحاً على جسدها ووشماً في ذاكرتها. رجاءً أنصتوا إلى أنينها الذي تصدح به حناجر المحتجين، رجاءً ارفعوا أيديكم عن مياه فكيك، احتراما لتضحياتها وتقديراً لشهدائها.