عز الدين السريفي
زيارة دولة يقوم بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمغرب، ابتداء من يوم الاثنين 28 أكتوبر 2024، من شأنها التأسيس لعهد جديد من العلاقات الثنائية بين الرباط وباريس، قوامه الثقة والمسؤولية والمصداقية والتعاون المشترك، بعدما وصلت العلاقات بين البلدين إلى أدنى مستوياتها خلال السنوات الثلاث الأخيرة على الأقل، بسبب الموقف الفرنسي غير الواضح بخصوص مغربية الصحراء، وما رافق ذلك من ممارسات التحرش والابتزاز، كما حدث في قضية بيغاسوس، لما تم اتهام المغرب بالوقوف وراء عمليات تجسس فوق التراب الفرنسي، وما وقع أثناء الزلزال العنيف الذي ضرب منطقة الحوز والنواحي خلال السنة الماضية، لما قبلت السلطات المغربية دعما من 4 دول (إسبانيا وبريطانيا وقطر والإمارات العربية المتحدة)، دون أن تطلب أي مساعدة من باريس، مما أثار غضبا في بعض وسائل الإعلام الفرنسية، وقد رد الرئيس الفرنسي على ذلك، بمخاطبة الشعب المغربي، عبر مقطع فيديو نشره على وسائل التواصل الاجتماعي، خلافا للأعراف والتقاليد الدبلوماسية، مما ساهم في صب النار على علاقات ثنائية كانت تعيش أسوء حالتها؛
ولم يكتف المغرب بمراقبة السلوك الفرنسي واتجاهاته، بل ووضع فرنسا في الزاوية الضيقة، لما أكد الملك محمد السادس في خطاب الذكرى 69 لثورة الملك والشعب، أن ملف الصحراء هو “النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم” وذاك “المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات”، منتظرا جلالته من بعض الدول من الشركاء التقليديين والجدد، الذين يتبنون مواقف غير واضحة بخصوص مغربية الصحراء، أن “توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل”، مما شكل حرجا كبيرا لفرنسا، خاصة في ظل الاعتراف الأمريكي التاريخي بمغربية الصحراء في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أواخر سنة 2020، وما تلاه من اعترافات دولية، وصل صداها إلى دول وازنة في الاتحاد الأوربي، كإسبانيا وألمانيا، وفي سياق تراجع النفوذ الفرنسي بإفريقيا، فضلا عن تعزيز الحضور المغربي في العمـق الإفريقي، في ضـوء ما أطلقه الملك محمد السادس، من مبادرات استراتيجية، خادمة لقضايا التنمية والأمن والاستقـرار بإفريقيا، فيما يتعلق بمبادرة إفريقيا الأطلسية، ومبادرة تمكين بلدان الساحل من منفذ على المحيط الأطلنتي، دون إغفـــال مشروع أنبوب الغاز نيجيريا المغرب، وما تحظى به المملكة، من أمن واستقرار وثقة ومصداقية واحترام، في محيطها الإقليمي والدولي، ما يجعلها شريكا موثوقا به، وجسر عبـور آمن بين أوربا وإفريقيا وأمريكا وبقية العالم؛
في ظل هذا السياق الجيوسياسي، وبعد طول انتظار، خرجت فرنسا، تحت الضغط الدبلوماسي المغربي، من المنطقة الرمادية، التي شكلت طيلة عقود من الزمن، مجالا لإنتاج خطاب التحرش والابتزاز ضد المغرب ومصالحه الترابية والاستراتيجية، بالإعلان عن موقف تاريخي داعم لسيادة المغرب على صحرائه، عبر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في رسالته الموجهة إلى الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لعيد العرش المجيد، والتي أعلن من خلالها، بشكل صريح أن “حاضر ومستقبل الصحراء الغربية يقعان ضمن السيادة المغربية”، مؤكدا ” ثبات الموقف الفرنسي بشأن هذه القضية الحساسة للأمن القومي للمملكة”، مضيفا ” اعتزام فرنسا التصرف بما يتماشى مع هذا الموقف على الصعيدين الوطني والدولي “؛
الموقف الفرنسي الجديد، اكتسى ويكتسي أهمية بالغـة، بالنسبة لقضية الوحدة الترابية للمملكـة، لأنه صادر عن دولة ذات ماضي استعماري بالمنطقة، ودائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي، ما يجعلها مطلعة أكثر من غيـرها، على ماضي شمال إفريقيا وحاضرها، وعلى تطور النزاع المفتعل حول الصحــراء، وهو ما أشار إليه الملك محمد السادس في رسالته الجوابية الموجهة إلى الرئيس الفرنسي، التي رحب من خلالها بالموقف الواضح والقوي الذي تبنته فرنسا، بشأن موضوع الصحراء المغربية، مقدرا جلالته عاليا ” الدعم الواضح الذي تقدمه بلادكم – فرنسا – لسيادة المغرب على هذا الجزء من أراضيه، وثبات الدعم الفرنسي للحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل لهذا النزاع الإقليمي، وبالتالي تكريس المخطط الذي تقدم به المغرب، منذ 2007، كأساس وحيد لتحقيق ذلك “، مؤكدا في هذا الصدد: ” ومن خلال الاعتراف للمغرب بأسانيده القانونية وحقوقه التاريخية، تساهم فرنسا في تعزيز الدينامية الدولية التي تدعمها، بالفعل، العديد من البلدان، من أجل وضع حد لنزاع موروث من حقبة أخرى”، مضيفا في ذات السياق” ويدرك الشعب المغربي وقواه الحية أهمية هذا القرار، الذي صدر عن عضو دائم بمجلس الأمن، ومطلع وثيق على ماضي شمال أفريقيا وحاضرها، وشاهد عن كثب على تطور هذا النزاع الإقليمي”؛
زيارة الرئيس الفرنسي والوفد الرفيع المرافق له، ستكون مناسبة لتجديد الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء، وهذا الاعتراف لن يغير – على مستوى الواقع – شيئا من صحراء في مغربها، ولا من مغرب في صحرائه، لكنه اعتراف بحق مشروع، وتصحيح لموقف، بشأن نزاع مفتعل، تتحمل فرنسا مسؤولية تاريخية وقانونية وأخلاقية في بقائه وديمومته طيلة عقود من الزمن، بالنظر إلى ماضيها الاستعماري بالمنطقة، كما تتحمل مسؤولية ما طال المجال المغربي من اقتطاعات ترابية منذ القرن التاسع عشر، كان من نتائجها إلحاق الصحراء الشرقية المغربية بالجزائر الفرنسية، وفي هذا الإطار، وحتى يكون الموقف الفرنسي الجديد، حاملا لطابع الثقة والمصداقية والمسؤولية، تبقى فرنسا ملزمة بالإفراج عن كافة الأرشيفات المحفوظة في الأرشيف الفرنسي، والتي من شأنها تأكيد الحقوق المشروعة للمغرب سواء في صحرائه الغربية أو الشرقية، وأن تتحرك اعتبارا لعضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي، في اتجاه الطي النهائي لملف النزاع المفتعل، مع تحمل مسؤولياتها التاريخية كاملة، بخصوص التراب المغربي المسلوب في ظل فرنسا الإمبريالية؛
ندرك تمام الإدراك أن الموقف الفرنسي الجديد، ليس إشفاقا على المغرب، ولا حبا في سواد عيونه، بل هو نتاج مصالح اقتصادية وجيواستراتيجية، تحاول فرنسا كسب الرهانات المرتبطة بها، عبر تثبيت أقدام الشراكة مع المغرب، الذي بات لاعبا صعبا في الملعب الإفريقـي، مع ضرورة الاستحضار في هذا الصدد، أن الإمبريالية الأوربية ومنها الفرنسية، خرجت من الباب، وتحاول النفاذ عبر النافذة، ما لم نقل نفذت فعلا، عبر غطاء الشراكة والتعاون والتحالف والمصالح المتبادلة، وعبر آليات الابتزاز والمساومة كما يحدث في النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، والمغرب بقدر ما عزز المواقف الإقليمية والدولية الداعمة لمغربية الصحراء، باعتراف فرنسي له وزنه التاريخي وثقله القانوني، بقدر ما يلزمه التعامل مع الشريك الفرنسي وغيره من الشركـاء، بما هو مطلوب، من الواقعية والفطنة والبراغماتية، في إطار علاقات متوازنة مبنية على قاعدة رابح رابح، ما يرفع من قدرات الاقتصاد الوطني، ويخدم ما أطلقه العاهل المغربي، من مبادرات إفريقية رائدة، معززة لمكانة المغرب الأطلسي، ومعززة للوحدة الترابية للمملكة وداعمة لها؛
الشريك الفرنسي، يبقى مطالبا بالانتقال من القول إلى الفعل، عبر، ليس فقط، تجديد موقف الاعتراف أمام البرلمان المغربي، والإعــلان عن حزمة من المشاريع الاقتصادية والتنموية داخل المغرب، والإفـراج عن الأرشيـفات المحفوظة في الأرشيف الفرنسي، بل والتحرك في اتجاه الطي النهائي لملف النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، والإقدام على فتـح قنصلية فرنسية بمدينة العيون أو الداخلة، والترافع حول عدالة قضية المغرب الأولى، على مستوى الاتحـاد الأوربي، ما يقطع بشكل لا رجعة فيه، مع ما يتعرض له المغرب من حملات ابتزاز ومساومة، كما حدث قبل أسابيع، فيما يتعلق بالقـرار الذي أصدرته محكمة العدل الأوربية، بشـأن اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري بين المغرب والاتحاد الأوربـي، ويدفع بالتالي، في اتجـاه الإعــلان عن موقف أوربي واضح وصريح، بخصوص قضية الوحدة الترابيـة؛
فرنسا لابد أن تدرك أن “مغرب اليوم ليس كمغرب الأمــس”، وهي مطالبة اليوم، بالتخلي عن العقلية الاستعمارية التي شكلت خيطا ناظما في علاقتها بالمغرب منذ الاستقـلال، والنظر إلى المغرب من منظور الشريك الاستراتيجي الذي يحظى بالثقة والمصداقية، ومن زاوية ملف الصحراء الذي جعله ملك البلاد، تلك “النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم” وذاك “المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات”، وفي المجمل، فالاعتراف الفرنسي، هو نهاية لزمن “ازدواجية المواقف”، ولسياسة “اللعب على الحبلين” التي شكلت ضابطا محوريا في علاقة فرنسا بالمغرب والجزائـر، في إطار البحث عن تــوازن مستدام، يضمن مصالح باريس في البلدين؛
وهو بذلك ” انتصار كبير” للدبلوماسية المغربية، معــزز للأسانيد التاريخية والقانونيـة الداعمة لمغربية الصحراء، وهزيمـة مدوية للنظام العدائي الجزائري، الذي استنزف قـواه كاملة في معركة وهميـة، لها تكلفة اقتصادية وتنموية على الجزائر وشعبها، ولم يعد أمامه سوى البكاء والعويل، أمام أطـلال “جمهوريـة السراب”، ولا يمكن ختم المقال، دون التنويه بما أبلته وتبليه الدبلوماسيـة المغربية من بلاء حسن، دودا عن الوحدة الترابيـة، وخدمة لمصالح الوطن وقضاياه المصيريـة، تحت القيادة الرشيدة للملك محمد السادس، متعـه الله بموفور الصحـة والعافية، ليكون نصرا للأمة ورمزا لوحدتها وأمنها واستقـرارها، وملهما لنهضتها وازدهارها وإشعاعها.