خلال الأشهر الأخيرة الماضية شهدت الساحة السياسية المغربية العديد من التغيرات الجذرية، على غرار عودة الرباط إلى أحضان الاتحاد الإفريقي، وانسحابه من منطقة “الكركرات” المُتنازع عليها، بالإضافة إلى التقرّب من الأمين العام الجديد للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس.
وفي الأثناء، بادرت خديجة محسن فنان، المختصة في الشؤون السياسية المغاربية والباحثة في جامعة باريس1، بالإجابة عن تساؤلات صحيفة “لوموند” الفرنسية بشأن تبعات انسحاب الرباط من منطقة “الكركرات”، ونتائج تغيير المغرب لاستراتيجيته في منطقة الصحراء الغربية.
منطقة الكركرات العازلة، الواقعة في أقصى الجنوب الغربي للصحراء الغربية، كانت مسرحاً لمواجهات حادة بين المغرب وجبهة البوليساريو لعدة أشهر، فهل كان بالإمكان أن يُسفر ذلك عن مواجهة مسلحة؟
خديجة محسن فنان: أستبعد حدوث ذلك، إذ إن الأمر لم يكن ليتعدّى مرحلة التهديدات، نظراً لأن لا أحد من الأطراف المتصارعة مستعد لمواجهة مسلحة في المنطقة.
لقد أثار إعلان المغرب انسحابه من هذه المنطقة، في 26 من شباط/فبراير، دهشة الجميع، كيف تفسرين هذا القرار غير المألوف من طرف الرباط؟
خديجة محسن فنان: في واقع الأمر، ليس من عادة المغاربة غضّ الطرف حين يتعلق الأمر بالصحراء الغربية، إلا أنه وخلال الأشهر الأخيرة الماضية، غيّرت المملكة من مواقفها السياسية، الأمر الذي تجلى بوضوح من خلال سياستها في منطقة الكركرات.
في الحقيقة، أراد المغرب إثبات حسن نواياه، وقد تزامن ذلك مع عودته إلى الاتحاد الإفريقي في كانون الثاني/يناير. فضلاً عن ذلك، سعت المملكة لإظهار جهودها الجدية في التعامل مع المسائل العالقة في المنطقة، خاصة مع قدوم أنطونيو غوتيريس كأمين عام جديد للأمم المتحدة.
وفي السياق ذاته، لم يكن بإمكان المغرب الاعتماد على أصدقائه المعتادين أو على إضعاف جبهة البوليساريو أو الحكومة الجزائرية، في ظل عزم أنطونيو غوتيريس على وضع حدٍّ لموقف الأمم المتحدة المهتزّ. لذلك، يسعى المغرب إلى الظهور في صورة الشريك الفاعل في العلاقات الدولية عن طريق عزل جبهة البوليساريو ولكن بالطرق القانونية.
لكن ما السبب الكامن وراء هذا المسار الجديد؟
خديجة محسن فنان: في الفترة الأخيرة، بات من الجلي أن المغرب قد أدرك أنه من الضروري الخروج من حالة الركود، خاصة أن الموقف الذي لم ينفكّ عن تبنّيه لم يعد مُجدياً. في الحقيقة، لطالما تأرجح المغرب بين حالة السلم والحرب وهو ما شكّل عائقاً أمام طموحات المملكة الاقتصادية، والسياسية، والإقليمية. فعلى سبيل المثال، اعتبرت محكمة العدل للاتحاد الأوروبي في كانون الأول/ديسمبر سنة 2016، أن اتفاقيات الاتحاد بين المغرب والاتحاد الأوروبي لا تنطبق على الصحراء الغربية.
في المقابل، وجد المغرب نفسه في طريق مسدود بسبب استراتيجيته السابقة، حيث سعى بشكل متواصل لعدم الظهور بصورة المهزوم في مواجهة جبهة البوليساريو. ونتيجة لذلك، أصبحت المملكة منعزلة سياسياً واقتصادياً.
كيف تفسرين العلاقة المتوترة التي كانت تجمع المغرب بالأمين العام الأسبق للأمم المتحدة بان كي مون؟
خديجة محسن فنان: لابد من الإشارة إلى أن بان كي مون قد أساء التصرف في إدارة ملف الصحراء الغربية، إذ إنه لم يولِ القضية الأهمية اللازمة. وخلال الفترة الأخيرة من توليه منصب أمين عام الأمم المتحدة، وصف بان كي مون الصحراء الغربية بـ”المحتّلة”، وذلك خلال زيارته لمخيمات اللاجئين الصحراويين في مدينة تندوف الجزائرية في آذار/مارس سنة 2016، ما أثار حفيظة الرباط.
وفي الأثناء، قدّم مبعوث الأمم المتحدة للصحراء الغربية، كريستوفر روس، عدة اقتراحات للأمين العام في محاولة منه لإيجاد حلول ناجعة بهدف إحلال السلام في المنطقة، إلا أن بان كي مون تغاضى عنها.
هل يمثّل فشل كريستوفر روس في الوصول إلى حل، السبب وراء استقالته؟
خديجة محسن فنان: في الواقع، يعتبر كل من كريستوفر روس ووزير الخزانة الأميركية الأسبق، جيمس بيكر، من القلة القليلة الذين استثمروا جهودهم بالفعل لوضع حد للصراع القائم في المنطقة.
في المقابل، عملت الرباط على نزع الشرعية منهما عن طريق اتهامهما بعدم الحياد وتحيزهما للطرف الجزائري. ونتيجة لذلك، قدم روس استقالته نظراً لعجزه عن وضع الأطراف المتنازعة حول طاولة الحوار.
هل وصول أنطونيو غوتيريس على رأس الأمم المتحدة يعدّ بمثابة بصيص أمل في قضية الصحراء الغربية؟
خديجة محسن فنان: في الحقيقة، الحكم على الدور الذي سيلعبه أنطونيو غوتيريس في ملف الصحراء الغربية سابق لأوانه، غير أنه قد أرسل بالفعل إشارات إيجابية. من المثير للاهتمام، أن غوتيريس قد قدم نفسه في هيئة “رجل السلام” الذي سيخلص الأمم المتحدة من القيود البيروقراطية. في الواقع، لطالما اعتبر الموظفون الأمويّون هذه القيود بمثابة ملاذ لهم، لصدّ الحلول المقترحة على غرار تلك التي قدّمها جيمس بيكر في سنة 2000، وكريستوفر روس مؤخراً.
وفي هذا الصدد، طالب غوتيريس في بيان له كلاً من الجزائر والمغرب بمغادرة منطقة الكركرات، مخالفاً بذلك عادات سلفه التي اقتصرت على الإدانة، والدعوة إلى المفاوضات والحوار.
الأمين العام الأسبق لجبهة البوليساريو منذ سنة 1976، محمد عبدالعزيز، وافته المنية في 31 أيار/مايو سنة 2016. فهل سيشكل هذا الحدث منعطفاً في استراتيجية الحركة الاستقلالية؟
خديجة محسن فنان: لا. لا أظن ذلك، إذ إن إبراهيم غالي، خليفة محمد عبدالعزيز على رأس “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” وجبهة البوليساريو، مُستميت في الدفاع عن الحركة. في الواقع، يرفض غالي التخلي عن نهج سلفه، وذلك على الرغم من غياب الوسائل والإرادة اللازمة لتحقيق ذلك. في المقابل، تبدو الحركة الاستقلالية في أضعف حالاتها إلا أنها تتمسك بوجودها المدعوم فعليّاً من طرف الجزائر.
فيما يتمثّل الحلّ للخروج من هذا النزاع؟
خديجة محسن فنان: ترتسم أمام الأطراف المتنازعة ثلاثة خيارات؛ قيام دولة صحراوية مستقلّة، أو نشأة كونفدرالية تجمع الأطراف المتنازعة، وأخيراً وليس آخراً، تمكين الصحراويين من حكم ذاتي في كنف المملكة المغربية.
في رأيي الشخصي، أعتقد أن الخيار الأخير هو الأكثر واقعية، ولكن ليس في الصيغة التي لطالما قدّمها المغرب. ومن هذا المنطلق، لابد من التفاوض على شروط وتفاصيل الحكم الذاتي هناك، فضلاً عن استشارة سكان الصحراء الغربية وتنفيذ الاتفاق المنبثق عن مختلف الأطراف على أرض الواقع.
من جهة أخرى، لا يصبّ هذا الحل في مصلحة المغرب، حيث إن الحكم الذاتي داخل نطاقه سيضطر الرباط إلى الاعتراف بهُوية الصحراويين، بالإضافة إلى التفاوض مع طرف قد عجزت عن هزيمته. فضلاً عن ذلك، سيمكّن الحكم الذاتي الصحراويين من إقامة انتخابات حرة والتمتع بموارد المغرب الطبيعية، الأمر الذي سيجعل الصحراء الغربية منطقة أغنى من المناطق الأخرى.
لكن ما السبب وراء عدم قبول الصحراويين هذا الحل؟
خديجة محسن فنان: يعود رفض الصحراويين خيار الحكم الذاتي إلى واقع تقديم هذا الاقتراح من دون الرجوع لهم، أي من طرف واحد وهو المغرب، وهو ما يجعلهم متشبثين بالاستقلال التام، الذي يعتبره الصحراويون مطلباً مهمّاً للغاية نظراً لتعرّضهم للإساءة. خلافاً لذلك، من الواضح أن الصحراويين سيستفيدون من الحكم الذاتي، لكن بشرط تمكينهم من صلاحيات حقيقية، الأمر الذي سيجعل من الصحراء الغربية عنصراً فاعلاً.
هل يسعى المغرب إلى إقصاء “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” من الاتحاد الإفريقي بعد عودته إليه؟
خديجة محسن فنان: ليس بمقدور المغرب فعل ذلك، إذ إن البلدان الإفريقية ترفض خروج “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” من اتحادها. عموماً، اتسمت سياسة المغرب تجاه البلدان الإفريقية بالعدوانية. وفي الأثناء لا يمكن الجزم بأن العلاقات الاقتصادية التي تجمع الرباط بهذه البلدان ستدفعهم ليكونوا في صفها.
في السياق ذاته، يندرج قرار المغرب بالعودة إلى الاتحاد الإفريقي ضمن المسار الجديد الذي تبنته المملكة، خاصة أن الاتحاد يعدّ بمثابة أرض مناسبة للخوض في العديد من المفاوضات.
وتجدر الإشارة إلى أن منظمة الوحدة الإفريقية، سلف الاتحاد الإفريقي، كان لها دور فعّال في تسوية أزمة “حرب الرمال”، التي دارت بين الجزائر والمغرب في سنة 1963.
هل بتغيّر رئيس الجزائر سيتغيّر الوضع في المنطقة؟
خديجة محسن فنان: الإجابة هي لا، فموقف النظام الجزائري لن يشهد تغييراً حتى بعد تنحي الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة من السلطة. في واقع الأمر، لطالما مثّلت الصحراء الغربية مسألة شائكة بين الجزائر والمغرب، تماماً كمسألة الحدود بين البلدين، غير أن الجزائر لا تعاني من الصراع القائم في المنطقة، حيث تستمر في إنتاج النفط والغاز وتصديرهما.
علاوة على ذلك، تتبلور الخلافات بين البلدين أساساً في مسألة الصحراء الغربية، الأمر الذي يجعل قضية الحدود مع المغرب غير قابلة للطرح.
في الختام، هل تعتقدين أن تغيير المغرب لاستراتيجيته سيسمح بحلّ النزاع؟
خديجة محسن فنان: عموماً، تُعدّ رغبة طرف فاعل في الخروج من حالة الركود، بمثابة أمر إيجابي. مؤخراً، أدرك المغرب أن موقفه السابق لم يمكّنه من التوصّل إلى تسوية. في هذه الحالة لابد أن تقدّم المملكة تعهدات فيما يتعلق بمسألة حقوق الإنسان على وجه الخصوص، ذلك أن الانتهاكات لا تزال متواصلة إلى اليوم.
نحن الآن على أبواب التصويت بتمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة إلى الصحراء الغربية. فضلاً عن ذلك، من المرجح أن يقدم الأمين العام الجديد تقريراً حول وضع المنطقة، ما يفتح باباً للتساؤل حول ما إذا كان أنطونيو غوتيريس سيطالب بإضافة عنصر “حقوق الإنسان” ضمن مشاريع الولاية الجديدة للبعثة؟
في كل الأحوال سيتضمن تقرير غوتيريس عناصر جديدة فضلاً عن مطالب واضحة وموجّهة إلى المغرب والصحراء الغربية على حد سواء.