مع اقتراب مصر من الانتخابات الرئاسية المقبلة المزمع عقدها في شهر مارس 2018، لم ينشغل المصريون -إلى حد كبير- بالانتخابات، المعروفة نتائجها سلفاً لصالح الرئيس المصري الحالي، عبد الفتاح السيسي، الذي أخلى الساحة تماماً من منافسيه.
حالة الخوف التي سيطرت على الساحة المصرية بعد الإطاحة بالمرشحين، وتزايد الملاحقات القضائية والاعتقالات- ربما ستعقبها إجراءات أكثر تشدداً بعد انقضاء الانتخابات الرئاسية، بحسب مقال مايكل وحيد حنا، الباحث بمؤسسة “ذا سينشوري” البحثية وزميل مساعد بمركز القانون والأمن في كلية القانون بجامعة نيويورك، في مقاله بصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية.
يقول حنا إن الكفاحُ الحقيقي من أجل مصير مصر سيحلُّ عقب الانتخابات، حين يسعى النظام إلى تعديل الدستور لتمديد الفترة الرئاسية وإلغاء الحد الأقصى للولايات الرئاسية.
ويرى أن ذلك قد يُمَثِّل فرصةً مُهمةً بالنسبة للفاعلين السياسيين المصريين والمجتمع المدني لتركيز الانتباه، وبناء تحالفات وبدء عملية أطول أجلاً لإرساء أُسس استعادة السياسة التي يتصدَّرها المدنيون.
الانتخابات الرئاسية
يقول حنا في مقاله إن الذين اختاروا الحديث علناً ضد سباق انتخابي صُوري وبيئة يتزايد فيها القمع، عانوا عواقب وخيمة، من ضمنها الاعتقال وتوجيه اتهامات جنائية لهم.
وكانت السلطات المصرية حريصةً، منذ البداية، على خلق واجهةٍ من انتخاباتٍ نزيهة متعددة المنافسين، وقبل بدء العملية الانتخابية رسمياً، تواصلت المؤسسة الأمنية المصرية مع عددٍ من الشخصيات؛ لتحديد مدى اهتمامهم بأداء دور المرشح الرمزي. لكن النظام أثبت أنه عاجز حتى عن تحمُّل احتمال وجود معارضة ورأي مخالف مُسيَّرَين بدقة.
وفي اللحظة الأخيرة، دخل موسى مصطفى موسى، رئيس حزب الغد المعتدل، السباقَ الانتخابي. لكن حتى وقتٍ قريب، كان حسابه على موقع التواصل “فيسبوك” يتزيَّن بدعم مسعى إعادة انتخاب السيسي، وعقب إعلانه التَرَشُح أبلغ مُقدِّم برنامج تلفزيوني أنه “مش رايح أتحدى إنجازات السيسي”. ولن توسع هذه الانتخابات بوضوح، حدود حرية التعبير عن الرأي أو تُتيح المجال للنقد الحقيقي.
ذكرى مبارك
ويرى حنا، الذي يعمل أيضاً على قضايا الأمن الدولي، والقانون الدولي، والسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، أن هذا النهج للانتخابات يعكس الدروس التي تعلَّمها نظام السيسي وحلفاؤه من الأحداث الصاخبة التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس الأسبق حسني مبارك في 2011.
إبان المراحل الأخيرة من حكم نظام مبارك الذي دامَ 3 عقود، تحمَّلت المؤسسات الحكومية والأمنية أنواعاً مُحدَّدة من الاختلاف في الرأي والمعارضة، مثل صعود صحافة شبه حرة.
واعتَبَر نظام مبارك أن هذه النسخة المُسيَّرة من الحياة السياسية بمثابة صمام أمان لإشراك المعارضين، دون تحرير العملية السياسية. لكن هذه البيئة حفَّزَت النشاط السياسي ووفَّرت قاعدةً لروابط وتحالفات سياسية جديدة أنتجت في نهاية المطاف، الحركات السياسية والاجتماعية التي قادت انتفاضة يناير/كانون الثاني 2011.
ويرى حنا أن نظام السيسي يتجنب بحزم، أي تكرارٍ لمثل ذلك التاريخ، فقد سعى في المقابل إلى سحق أي نشاطٍ معارضٍ مُحتَمَلٍ قبل أن يُصبح تهديداً ناشئاً أو ذا مصداقية. وتخطى هذا القمع الأهداف السياسية الجلَّية وخلق بيئة تسفيهية، بدأ فيها المدّعون اتخاذ إجراءات قانونية همجية، مُثيرين بذلك صدمة مؤيدي النظام أنفسهم.
السياسة مستمرة داخل النظام
حنا يشير -رغم ذلك- إلى أن السياسة توجد الآن فقط داخل النظام. فبينما يحتفظ السيسي بالسيطرة على المؤسسة الأمنية وما زال يحظى بتأييدٍ واسع النطاق داخل الجيش، فإن عمليته متزايدة العدوانية لتوطيد الحكم وإضفاء الطابع الشخصي عليه قد خلقت فائزين وخاسرين واضحين داخل الجيش.
ويؤكد حنا أن آلية العمل الداخلية لتلك المؤسسة تبقى مبهمة إلى حدٍّ كبير، وأثار ذاك الافتقار إلى الشفافية تكهُّناتٍ محمومةً بشأن المنافسات والانشقاقات الداخلية، وتُشير التطورات الأخيرة، ومن ضمنها إقالة مسؤولين عسكريين واستخباراتيين كبار، بوضوحٍ، إلى بعض الاضطرابات الداخلية وجنون العظمة المتزايد لدى النظام.
وكشفت المناورة الانتخابية الفاشلة للمسؤولَين العسكريَّين السابقَين الكبيرَين أحمد شفيق وسامي عنان توتُّرات داخلية في أرجاء المؤسسة الأمنية. ورغم محدودية الحملة التي لم تكد تبدأ، فإن المخاطر العالية قد أثارت بعض أكثر ردود الفعل المضادة سخطاً لدى المؤسسة.
ويؤكد حنا أن الجميع داخل الجيش ليسوا سعداء بكل ذلك. فالدور الاقتصادي المتنامي للجيش، والذي توسَّعَ في السنوات الأخيرة إلى أبعد من المجالات المعتادة، أبرز عدم المساواة بداخله وفاقَم الانقسامات بين الأجيال.
وتوضح المناقشات مع مسؤولين عسكريين سابقين أيضاً، أن قرار نظام السيسي تسليم جزيرتين صغيرتين، ولكن ذواتَي موقع استراتيجي في البحر الأحمر للسعودية أثار السخط. وأثارت تلك التطورات نفور قطاعات المؤسسة التي تحافظ على استقرار النظام.
وتسبَّب القلق الداخلي والتحديات التي فرضها مسؤولون عسكريون كبار سابقون، بمحاولتهم الترشح، في رد فعل متسرِّع ولاذع ولافت للنظر. وفي حين بدا السيسي كأنه يؤمن بأن السياسات المدنية لا تُمثِّل أي تحدٍّ لسلطته، فإنه يظل مفرط اليقظة إزاء أي انقسامات محتملة داخل الجيش، الذي يأخذ سلطته على محمل الجد.
المعركة المقبلة بشأن الدستور
ويرى حنا، في مقالة بـ”واشنطن بوست”، أن غياب نظام سياسي يقوده مدنيون لا يعني سوى أن السياسات المهمة بالبلد توجد الآن في يد النظام ومؤسساته. وبالاقتران مع الاستقطاب المتواصل في المجتمع المصري، والإنهاك والخوف في أعقاب التحوُّل السياسي المضطرب، والفوضى والعنف الإقليميين والأوسع نطاقاً، فقد تحالفت مع النظام نفسه التهديدات المحتملة الوحيدة التي تهدِّد استمراريته. ولا تزال تلك التمزُّقات غير محتملة ويستحيل التنبؤ بها مسبقاً، لكنها ستكون مُزَعزِعة للاستقرار وغير ديمقراطية إذا تحوَّلت إلى حقيقة.
ولا تُمهِّد مثل تلك البيئة الطريق لتجديدٍ مقنعٍ لشرعية نظام السيسي. لكن، ليس هذا هو الغرض من الممارسة الانتخابية المزمعة هذا الشهر؛ بل إنها عقبة إجرائية تجب إزالتها قبل المسعى الأهم الذي يستتبع ذلك لتعديل الدستور. واقترح برلمانيون وحلفاءٌ للنظام تعديل الدستور؛ لإضفاء الطابع الرسمي على الحكم المطلق في مصر، بحسب حنا.
ويضيف أن الجدل حول التعديلات الدستورية أيضاً ربما يُمثِّل الفرصة الوحيدة لتنظيم المعارضة الداخلية والدولية إزاء محاولات نظام السيسي متزايدة العدوانية لتركيز السلطة في يد الرئيس. ومثلما ساعدت جهود مبارك الرامية إلى التخطيط لتوريث نجله، في تغذية الاستياء الواسع النطاق الذي أدى إلى سقوطه- فإن جهود تثبيت السيسي كرئيس لمدى الحياة قد تُشعِل معارضة خطيرة في قطاعات المجتمع المصري وبين رعاة مصر الدوليين.
إذا لم تكن حماية الطابع الجمهوري لمصر كافيةً لتخليصها من مظهرها السلطوي المُتجدِّد الحالي، فقد تكون محصورةً بشكلٍ محكم في الميثاق الفوضوي القديم المألوف والذي لن يفضي إلى انتقال سياسي إلا عن طريق الموت أو الانقلاب أو الانتفاضة.