سليمان الحقيوي / ناقد سينمائي مغربي
يأخذنا المخرج الأمريكي بيتر فاريلي 1956 إلى مطلع الستينيات، يقدّم لنا في كتابه الأخضر «توني فاليلونغا» في دور جميل لفيجو مورتنسن، أمريكي من أصل إيطالي عامل من أحياء برونكس، يعمل في ملهى ليلي (كوبا)، ويجد نفسه مضطرّا للبحث عن عمل لشهرين يُقفل فيها الملهى أبوابه من أجل الإصلاح، يجد عملا بمرتب مريح، سائقا خاصا لعازف بيانو «دون شيرلي» (ماهرشالا علي)، لكن وكما أخبره مشغّله؛ الأمر لا يتعلق بسائق فقط، بل بمشرف على الرحلة، وشخص قادر على التدخّل في أي وقت لإصلاح الأضرار، خصوصا أن رحلة دون شارلي ستحملهما إلى الجنوب الأمريكي، حيث لا حقوق للسود هناك، والمكان الحقيقي لهم هو قطف القطن! كان على توني أن يستلم دفتر ملاحظات أخضر يتضمّن تفاصيل الأماكن المناسبة لإقامة الأمريكيين الأفارقة، هذا الكتاب هو عنوان الفيلم وصانع قصّته.
يتّضح لنا منذ البداية أنّ الرحلة ستجمع شخصين على طرفي نقيض تماما، الأوّل توني فالّيلونغا يرفض أي شيء يغيّر هويته ويجعله يبدو على غير طبيعته، يأكل بنهم بدون حرص على تعليقات الناس حول كيفية التهامه الطعام، يدخّن في وجه من يخاطبه، حياته شفّافة ويدافع عن طباعه، وكأنها جزء من كرامته، يرفض أن يناديه الآخرون بغير اسمه «فالّيلونغا»، رغم أنه اسم يحرج دون شارلي في الأوساط الراقية، لا يهتم ويصرّ على تصحيح الاسم في كلّ مرة يخطأ فيها أحدهم في مناداته به! أمّا دون شارلي فهو رجل التفاصيل، مهمّته في الحياة ـ بجانب العزف- أن يظهر دائما بمظهر السّيد المتحضّر الأنيق، المثقّف حتى إن كان الأمر في مجمله يبدو مصطنعا، لكنّه بالنسبة للرّجل – وعلى عكس رفيق رحلته – مهمّة ينبغي أن تتمّ كما يراها هو، الحضور المثالي، لترك الانطباع المثالي. يعيش وفق ضوابط يصنعها وتصنعه، لا مجال فيها للطبع أو العفوية؛ من الكلام إلى الملبس إلى طريقة الأكل. شخصان كانا مضطران أن يتعايشا، أن يصطدما، أن يواجها مسارا واحدا فيه منفعة متبادلة، قبل أن يصيرا في النهاية مرآة يعكس كلّ منهما عيوب الآخر. الرّحلة التي جعلت تصورات راسخة لدى الرجل الأبيض توني عن السود تبدو سخيفة، عندما غابت كل الاعتبارات وحضر المشترك الإنساني، الرحلة في مرحلة منها لم تعد رحلة لسائق وزبون، صارت علاقة مفتوحة يقف في كل طرف منها إنسان يعرف كلّ شيء عن الآخر، عيوب سلوكية، أخطاء… وعندما ينكشف للجميع زيف مشاعر الكراهية التي توارثها الإنسان بدون أن يعرف كيف، يفهم أن الأصل هو الإنسانية. توني تحوّل من شخص يلقي في القمامة بكأسين شرب منهما عاملان أسودان، إلى شخص يدافع عن دون شارلي إذا تحدّث عنه شخص ما بكلام عنصري.
أهم العناصر المبعدة نسبيا عن تصوّرات جمهور فيلم الكتاب الأخضر هو عنصر المكان «الجغرافيا»، التي تلعب دورا مهمّا في البناء الدرامي للفيلم، الرحلة التي ستجمع توني ودون شارلي في اتجاه الجنوب الأمريكي العميق.
كعادة أفلام الرحلة، التي تجري أحداثها داخل حيّز السيارات، فالحوار يكون أقوى العناصر، وفي هذا الجانب، كتاب أخضر لا يخيب الظّن أبدا، حواره قوي، وراءه سيناريو متماسك، أبرز خصوصية كلّ شخصية، وصنع لها منطقة آمنة تستمدّ منها عناصر قوّتها، منطقة تنظر منها إلى الشخصية الأخرى وتبادلها وجهات النظر، بدون أن يقع النص في تتبع المشاعر، رغم إمكانيات كثيرة لتفجيرها، تجنبها النص صانعا ميزة خاصة له وحده، ميزة التطهير بواسطة السخرية. هكذا كان المقعد الأمامي للسيارة الكاديلاك الخضراء فاتحة اللون ومقعدها الخلفي منصّتان لتبادل وجهات النظر عن معنى أن تكون مسلوبا الحقوق، معنى أن تكون أسود. هذه الجودة جعلت سيناريو الفيلم يفوز بجائزة الأوسكار عن فئة أحسن سيناريو أصلي. وهو من كتابة نيك فاليلونغا وبراين كوري وبيتر فارليلي.
ولعلّ أهم العناصر المبعدة نسبيا عن تصوّرات جمهور فيلم الكتاب الأخضر هو عنصر المكان «الجغرافيا»، التي تلعب دورا مهمّا في البناء الدرامي للفيلم، الرحلة التي ستجمع توني ودون شارلي في اتجاه الجنوب الأمريكي العميق؛ (كنتاكي، كارولينا الشمالية، تينيسي، ميسيسيبي..) حيث لا حقوق للسود هناك، غير مسموح لهم بولوج الفضاءات العمومية نفسها، حياتهم هناك منفصلة مستعبدين إلى درجة كبيرة، الشخص الأسود هو من يقطف القطن ويحرث الأرض ويُجلد لأبسط هفوة، ويقتل ببرود إذا خالف الأوامر. بينما كان السود في الشمال قد قطعوا- نسبيا – مرحلة مهمة في الاعتراف ببعض الحقوق المدنية. وهكذا كان رحلة توني ودون شارلي رحلة نحو فضاء معاد، رحلة إلى الجحيم نفسه، وكان على توني أن يؤمّن هذه الرحلة ويجعل دون شارلي يصل إلى كل عروضه المبرمجة في وقتها المحدّد، مقيّدا بكتاب أخضر يحدد كل ما هو مسموح به للسود أثناء زيارة الجنوب، وفي واحدة من مشاكل كثيرة اعترضتهما، أمسكت مجموعة من البيض دون شارلي داخل حانة وأنهكوه ضربا، بل كانوا بصدد قتله، لولا تدخل توني البارع في حلّ مشاكل من هذا النوع، خارج الحانة كان دون شارلي الثمل يردّد على مسامع توني عبارة تختزل حياة السود، هل الجغرافيا مهّمة حقّا؟
فاريلي في عمله يسير في عكس أفلام كثيرة تناولت حقبة أمريكا والعنصرية، أفلام استعادت واقعيا أو تخييليا تاريخا مؤلما من تاريخ الإنسانية فصنعت دراما قوية لا مجال فيها للكوميديا أو السخرية، وكأنّ الطرح كان أكثر جدية من أن يحتويه قالب كوميدي، لكن فاريلي يجعلنا نضحك نتهكّم نحس بتفاهة قوانين كانت تضطهد الناس، لا يجرك عاطفيا ولا يثير عواطفك بقدر ما يدفعك إلى التهكم معه على ذلك التاريخ. في مشهد حصول توني على الكتاب الأخضر، يبدو هو وزوجته جاهلان بوجود كتاب ينظّم أماكن تواجد السود الجنوب الأمريكي، بدا على ملامحهما الاستنكار، رغم أنّ توني نفسه كان عنصريا، شأنه شأن الكثير من الناس البيض.
في النهاية ستشعر بحيرة وأنت تحاول تصنيف فيلم «كتاب أخضر» هل هو فيلم طريق؟ أم فيلم عن اضطهاد السود، أم سيرة، كوميديا أم دراما اجتماعية؟ هكذا ينفلت كتاب أخضر من كل تصنيف نوعي أحادي، وكأنّ فاريلي يقول الفيلم كلّ ذلك وأكثر، الفيلم أقرب إلى كل ثيمة وبعيد عنها أيضا، هذه ميزته، التي جعلته أحد أهم ثلاثة أفلام في العام الماضي، الميزة التي حملته للفوز بجائزة أوسكار أفضل فيلم في النسخة الأخيرة (91) من جوائز الأوسكار.