حاوره: نضال القاسم
الناقد والأكاديمي عماد الضمور أستاذ الأدب الحديث في جامعة البلقاء التطبيقية، رفد المكتبة العربية بمؤلفات عدة، منها «فضاءات نصّية»، «عمّان.. وهج المكان وبوح الذاكرة»، «آفاق نقدية»، «مرايا النص» و«الإبداع المكاني في الشعر الأردني». عن رؤيته وتجربته النقدية كان هذا الحوار..
■ بداية .. كيف تواجه نصًا نقديًا؟
□ لعلّ مواجهة أيّ نص إبداعي يحتاج إلى مغامرة نقدية جمالية في جوهرها، فكريّة في دلالاتها، وهي مغامرة تتطلب الثورة على تشكلات النص اللغويّة، وعدم الانقياد وراء رؤى المبدع، بل بعث أفكاره في رؤى جديدة تخضع لمكنون النص، وما يمكن أن يبعثه في الآخرين، وهي مغامرة موازية للمغامرة الإبداعية التي تحاول إيجاد مداخل متعددة، تناسب شعريّة النص الحداثي من جهة، وانعكاساته الفكريّة من جهة أخرى، في محاولة استجلاء قوانين التلقي التي يطرحها الخطاب ذاته، بهدف الكشف عن خصوصيته النصيّة من ناحية، وبيان طبيعة القوانين الإبداعية المنتجة للمعنى الشعري من ناحية أخرى، ممّا يتطلب القيام بمغامرة نقديّة، تتجاوز الرصد والكشف إلى حوار معلن مع تقاليد النص الشعري، وقوانينه الإبداعية؛ لذلك فإنني انطلق في مواجهتي للنص الإبداعي من فكرة النص المؤسِس، والتقاليد الموروثة التي يمكن أن يتأسس عليها أيّ نص إبداعي حتى أتمكن من الوقوف على مظاهر التجديد في الشكل والمضمون، والوقوف بشكل جلي على مقاصد النص، ونواته التي انبثق منها. وهنا لا بدّ من توافر وعي نقدي يتأسس على معرفة متعمقة بالمناهج النقديّة، والفلسفات الفكرية التي انبثقت منها؛ لتُشكّل قاعدة متينة تقوم عليها العملية النقدية.
■ وكيف تنظر لواقع النقد في الوطن العربي في ظل النظريات والمناهج الجديدة؟
□ إذا كان الشاعر يسعى دائماً إلى التجاوز والتخطي بحثاً عن سياقات جديدة من التواصل الجمالي، وإرساء حداثة جديرة بالنهوض، فإن الناقد مطالب أيضاً بمجاراة حركة الحداثة الشعريّة، وامتلاك الأدوات النقديّة المناسبة لاقتناص اللحظة الجماليّة، والوقوف على مقاصد النص، ورؤاه الفكريّة، ولا يمكنه فعل ذلك بدون التسلّح بالمناهج النقديّة التي أفرزتها مرحلة الحداثة الشعرية، وما بعدها، إذ لا يمكن الحديث عن نقد حقيقي بدون وعي نقدي مُتحصّل من معرفة كافية بالمناهج النقديّة الحديثة وتعلقاتها الفلسفية؛ ليتمكن الناقد من استحداث أدوات قرائية مناسبة لخصوصية الإبداع الأدبي، ومتطلباته الفكرية.
لعلّ هذا الفهم لثقافة الناقد في ضوء متطلبات المناهج النقدية الحديثة أسهم في تطور النقد العربي، وجعله أكثر قدرة على مجاراة الإنتاج الأدبي، لكن لا بدّ من الإشارة إلى ضرورة عدم الانسياق تماماً وراء المناهج النقدية الغربية، وضرورة إخضاعها لطبيعة وخصوصية الإبداع العربي. فما حققه النقد الغربي من نجاحات كبيرة نتيجة تطبيق هذه المناهج، لم يتحقق بالدرجة نفسها في النقد العربي؛ لارتباط هذه المناهج في الغرب بالفلسفة التي صاغت القواعد النقدية، ونحن في الوطن العربي لا ندرس الفلسفة ولا نُدرسها، فضلاً عن اختلاف الترجمات، وتعددية المصطلح النقدي وإشكالية تأويله عند النقاد العرب. لذلك لم ننجح في الوطن العربي في فهم المناهج النقدية، أو تمثلها كما أبدعها الغرب، ممّا أوجد مسافة كبيرة بين ما تمّ إنجازه في الغرب، وتطبيقات هذه المناهج في النقد العربي، فضلاً عن أن النقد العربي لم يُقدّم هذه المناهج بطبيعتها الفلسفية التي قامت عليها، بل بأسلوب أكاديمي تعليمي بعيداً عن القواعد أو الأصول المنهجية التي تقتضيها طبيعة هذه المناهج العلمية، ما جعلنا نجد المصطلحات النقديّة تملأ الدرس النقدي بدون تطبيق حقيقي عليها.
■ إذا كان لكلّ منتج فكري وثقافي خصوصية، فما هي خصوصية كتابك «سيميائية العتبات النصية في شعر نادر هدى»؟
□ تنبع خصوصية هذا الكتاب من عدة منابع، أولها، أنّه محاولة لتطبيق المنهج السيميائي في دراسة النصوص الشعريّة، لإدراك العلاقات بين العلامات اللغوية، وبيان مرجعياتها الفكريّة وتشكّلاتها الفنية، ممّا يُساعد في عملية التأويل، ومحاولة فك مغاليق النص. أمّا الخصوصية الثانية فتنبع من تناولها لقصيدة النثر، التي تحضر بشكل واضح في المشهد الشعري المعاصر، حيث تأخذ من النثر حريته، ومن الشعر فضاءاته التصويرية متجاوزة الوزن إلى مسألة الإيقاع التصويري. والأخيرة تنبع من اختيار دواوين الشاعر الأردني نادر هدى للتطبيق عليها، إذ استطاع ومن خلال إصداراته الشعريّة أن يلفت الأنظار إلى تجربة شعريّة خصبة، أثبتت أحقيتها بالدراسة.
نلمس تراجعاً عاماً في مستوى الحياة الثقافية بشكل عام؛ بسبب تزايد ضغط الواقع الاقتصادي على جميع فئات المجتمع، فضلاً عمّا أصاب الثقافة من حالة ارتباك نتيجة مقاومة بعض الفئات للاتجاه نحو الحياة المدنية
■ لماذا حازت الرواية العربية على اهتمام النقاد أكثر من الشعر؟
□ إنّ الثورة التكنولوجية وتداخل الأجناس الأدبية جعلت من النصوص الإبداعية عالماً شائكاً من الأفكار والرموز والعواطف، لعلّ ذلك أسهم بشكل واضح في لفت انتباه النقاد إلى الاهتمام بالرواية، بوصفها من أكثر الأجناس الأدبية قدرة على امتصاص الفنون الإبداعية الأخرى، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن ما تشهده الرواية من اهتمام ورعاية حفّز النقاد على متابعة الكم الهائل من الإنتاج الروائي، ومحاولة رصد اتجاهاته الفكرية وقضاياه الفنية، علاوة على الدور الكبير الذي قامت به الجوائز المالية الكثيرة المخصصة للإبداع الروائي، مقارنة مع ما يُقدّم للشعر، ما أسهم في هجرة جماعية للرواية حتى من الشعراء أنفسهم. ولما كانت الرواية توصيفاً أدبياً للمجتمع، فإنها جعلت من وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة لإبراز الحياة الاجتماعية المعاصرة وثقافة المجتمع، وتصوير جزيئاته وتفصيلا للحياة الاجتماعية، وما ينتاب الشخوص من حالات نفسيّة مختلفة، ما جعلنا أمام حياة واقعية للمجتمع، وإن كانت صادمة في الوقت نفسه، لما تعكسه من نماذج بشرية ذات تعددية فكرية وثقافية تخرج عمّا ألفناه في ثقافتنا. إنّ هذا الاهتمام بالرواية على حساب الشعر، لا يعد قصوراً في أهمية الشعر ودوره الخالد في الثقافة العربية، بقدر ما هو استجابة لظرف حضاري، جعل الفنون السردية بشكل عام والرواية بشكل خاص أكثر ارتباطاً بوسائل التواصل الاجتماعي، ترقى إلى مستوى التعبير عن راهن العصر.
■ إلى أي حد عبَّر الأدب الأردني الحديث عن التحولات التي يعيشها الأردن منذُ الاستقلال؟
□ نجح الأدب الأردني في التعبير عن كثير من التحولات المهمة التي شهدها الأردن منذ تأسيس الأمير عبدالله بن الحسين سنة 1921 إمارة شرق الأردن، حيث وفّر للحركة الأدبية عوامل تطورها، فجاءت مجالسه نواة لحركة أدبية متحفّزة، برز من خلالها الطابع القومي بصورة واضحة، بعدما عكس الشعر جذوة الشعور القومي عند أحرار العرب، الذين اجتمعوا في مجالس الأمير الشاعر، وأعلنوا مبكراً آمالهم في نشأة مملكة عربية موحدة، وقد أشرت إلى ذلك في كتابي «أثر الثورة العربية الكبرى في الشعر الأردني المعاصر». وقد أسهمت الأحداث المتسارعة التي شهدها العالم العربي ـ والأردن جزء منه ـ في تأجيج المشاعر القومية في الشعر الأردني، فأصبحت الأحداث السياسية وحركات التحرر العربي من قيود المستعمر موضوعات مهمة في كثير من الدواوين الشعريّة، ما أبرز وظيفة الأدب بوصفه كلمة مقاتلة، لذلك حضرت فلسطين قضية مصيرية في الأدب الأردني، وفي الجانب الاجتماعي عكس الأدب الأردني التحولات الاجتماعية العميقة التي يشهدها المجتمع؛ بسبب الثورة التكنولوجية، وحالة التغيّر الاجتماعي، وما أحدثته من قضايا فكرية وظواهر اجتماعية ظهرت في النثر والشعر على السواء.
ولا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى أن الحركة الأدبية في الأردن تشهد حالة من الانفجار الإبداعي، ما يقتضي وجود حركة نقدية موازية، ترصد، وتحلل، وتصنّف، وتُظهر مواطن القوة والضعف في الأعمال الإبداعية بكلّ حيادية وموضوعيّة وعلمية، بعيداً عن التعصب الأعمى أو الشللية.
ومن ناحية أخرى نحيا أزمة في النقد ناتجة عن أزمة في الإبداع، فتفاوت المستوى الإبداعي ينعكس على المستوى النقدي، ويؤدي إلى حدوث فجوة واضحة بينهما، إذ ليس كلّ ما يُنشر من أعمال إبداعية يستحق القراءة، فقد ازدحمت الساحة الثقافية بدور النشر مثلما ازدحمت بالراغبين في نشر أعمالهم بغض النظر عن مستواها الفني، ممّا ملأ المشهد الثقافي بكثير من الكتب التي تقع في طور التجريب وليس الإبداع.
■ كيف ترى واقع الساحة الثقافية الأردنية اليوم؟
□ نلمس تراجعاً عاماً في مستوى الحياة الثقافية بشكل عام؛ بسبب تزايد ضغط الواقع الاقتصادي على جميع فئات المجتمع، فضلاً عمّا أصاب الثقافة من حالة ارتباك نتيجة مقاومة بعض الفئات للاتجاه نحو الحياة المدنية، ما أحدث تداخلاً بين كثير من المفاهيم، وهو تداخل غير منتج في بعض الأحيان، إذ أسهمت العصبيات الاجتماعيّة على اختلاف توجهاتها ومنطلقاتها في تعميقه. ولا بدّ في هذا المجال من الإشارة إلى وجود ازدواجية وتناقض تشهده الساحة الثقافية؛ فثمة ثراء في المواهب الإبداعيّة والمبادرات الفردية، لكن لا نجد رعاية ثقافية كافية لها، فإضافة إلى دور وزارة الثقافة، يجب إشراك القطاع الخاص في دعم الثقافة، ما يضعنا أمام مسؤولية مجتمعيّة.
■ هل نعيش أزمة ثقافة، أم أزمة مثقفين؟
□ لا شك في أن الواقع الثقافي العربي مأزوم لدرجة كبيرة؛ نتيجة لحالة الاستلاب الفكري التي يحياها المثقف العربي، وتراجع دوره في الإصلاح، أو إحداث التغيير المطلوب، لذلك فإن الثقافة الهشــة تُنتـــج أنصاف مثقفين، أو ممّـــن يتحـــولون في مواقفـــهم، ممّا يجعلنا أمام أزمة حقيقية في الثقافة والمثقفين معاً، فكلاهما مرتبط بالآخر، ويقود إليه. والخروج من أزمة الثقافة مرهون بمعالجة المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لأن الاختلال في أيّ منها يؤدي إلى أزمة ثقافة حقيقية.
■ أخيرا، ماذا عن جديدك في التأليف؟
□ الجديد هنا في مجال الأدب المقارن، ويتحدث عن المؤثرات الأجنبية في الشعر العربي المعاصر، ذلك أن مواكبة الإبداع الأدبي في الوطن العربي، بخاصة الشعري منه، يتطلب بحثاً في مقوماته، وروافده الفكرية، إذ لا يمكن دراسة الشعر العربي المعاصر بدون الوقوف على تفاعلاته الفنية والفكرية مع الآداب الأجنبية الأخرى، فمن الوهم أن نفهم النص الشعري المعاصر بعيداً عن مرجعياته المعرفية، خاصة الأجنبية منها.