«في الحرب، الحقيقة هي الضحية الأولى»، قالها الشاعر والمسرحي الإغريقي إسخيليوس قبل أكثر من 2500 سنة، وهذه المقولة لا تكف عن تأكيد صحتها كلما اندلعت حرب صغرى أو كبرى، خاصة حين يكون أحد المتحاربين أقدر من سواه على تزييف الوقائع والمعطيات. والمأساوي أكثر أن المقولة ذاتها اكتسبت مستويات مذهلة من التضليل والخداع في عصر انفجار المعلومات وبلوغ التكنولوجيا الرقمية في تلفيق الصورة درجات هائلة وغير مسبوقة.
أحدث الأمثلة على هذه الحال قدمتها للعالم بأسره قناة «أي بي سي» الأمريكية العريقة التي بثت، وفي اثنين من برامجها الإخبارية الرئيسية، شريط فيديو تحت عنوان «مجزرة في سوريا» زعمت أنه يصور قصفاً تركياً للأكراد في بلدة تل أبيض خلال عملية «نبع السلام» التي ينفذها الجيش التركي في شمال سوريا راهناً. وسرعان ما اتضح أن الفيديو ليس سوى مشاهد دعائية لبرنامج خاص بالترويج للأسلحة سُجّل في ولاية كنتاكي الأمريكية سنة 2017، مما اضطر القناة إلى الاعتذار وسحب الفيديو، ولكن بعد أن صارت الفضيحة مادة للانتقاد وللاستغلال في آن معاً.
ولم يكن مدهشاً أن يبادر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى احتلال صدارة المستغلين للواقعة إذ غرد على الفور معلقاً على الحكاية فاعتبرها «فضيحة كبرى»، وربطها كما هو متوقع بتغطيات القناة ذاتها لقضية مكالمته الهاتفية مع الرئيس الأوكراني وتحقيقات الكونغرس. كذلك لم يكن مستغرباً أن يكون أحد كبار أنصار ترامب هو أول من كشف النقاب عن زيف الفيديو، وأن موقعاً يمينياً معروفاً بالتعصب الشديد لسياسات ترامب كان المنبر الأول الذي بث تفاصيل الفضيحة.
وإلى جانب الحقيقة كضحية أولى لهذه الفضائح، فإن شرف الصحافة والصحافيين والإعلام المحايد عموماً هو الخاسر الأكبر حيث لا يُلام قارئ صحيفة أو مشاهد قناة أو مستمع إلى إذاعة إذا تشكك في ما يسمع، خاصة حين يحمل الخبر محتوى عالي القدرة على التأثير وتكييف الرأي العام، أو حين تكون وراء صياغته شركات علاقات عامة متخصصة في التزييف. ولعل «كذبة الحضانات» هي المثال الأشهر في منطقتنا على هذا الطراز من التزييف، إذ شاع في خريف العام 1990 وبعد الاجتياح العراقي للكويت أن الجنود العراقيين اقتحموا المستشفيات الكويتية وفصلوا أنابيب الأكسجين عن حضانات الأطفال الرضع مما أسفر عن موت العشرات منهم. ولقد تبنى الكونغرس الأمريكي هذه الحكاية من دون أي تشكيك، وساعدت أيضاً على حشد الرأي العام خلف عمليات «درع الصحراء» و«عاصفة الصحراء»، كي يتضح لاحقاً أن شركة علاقات عامة أمريكية اخترعت الأكذوبة بكامل تفاصيلها، وقبضت لقاء ترويجها ملايين الدولارات.
اعتذار قناة «أي بي سي» غير كاف لتبرير الفضيحة من حيث المبدأ، ولكنه أيضاً غير مقنع بالنظر إلى أن الفيديو الأصلي جرى إدخال تعديلات عليه مما يثير احتمال أن يكون تحرير القناة قد تعمد الخطأ وهذا ذنب أعظم بالطبع، لأنه يعني التضليل عن سابق قصد وانتهاك شرف المهنة دون وازع من ضمير، ومنح المشككين في مسؤولية الصحافة ودورها فرصة ثمينة للذهاب أبعد في التشكيك.