لم يكن ما طرحناه من أفكار استباقية في مقالتنا الأخيرة، المعنونة ” لهذا السبب لا يمكن للمغرب أن يستغني عن أحزابه في زمن الكورونا”، نابعا من فراغ، ولم تكن دعوتنا للأحزاب السياسية، الانخراط والتفكر بإيجابية في ما بعد الوباء، ترفا فكريا، ولا هو من نافلة القول. لقد شددنا وقلنا على أنه ” لا يمكن أن نبقى مكتوفي الأيدي، ولا نضع لأنفسنا خطة اقتصادية، تشحذ فيها الأحزاب السياسية والنقابات كل عقول أطرها ونخبها من أجل التفكير الجماعي في إعادة بناء الاقتصاد، والنظرة للمجتمع، خصوصا ونحن نرى بعضا من الدول تدعو أحزابها ونخبها والقوى السياسية في المشاركة إلى “اقتراح وثيقة كبرى من أجل إعادة بناء بلدانهم اقتصاديا واجتماعيا”. كل هذا لأن جوهر الممارسة السياسية السليمة، والمعنى الحقيقي للأحزاب مرتبطان بضرورة قدرة إنتاج النخب السياسية لوصفات ناجعة، خدمة للمواطن، فعدم لعب الأحزاب السياسية لأدوارها التأطيرية والتوعوية في أزمة ”كورونا” سيثير مستقبلا تساؤلات عديدة بشأن الغاية من وجودوها ومستقبلها”.
الكل منخرط اليوم في طرح الأسئلة واستقراء الواقع، من حولنا ما بعد انتشار وباء كورونا المستجد، والجميع يبحث عن الماهية والشكل الذي سيكون عليه العالم وكيف ستكون الشمس التي ستشرق عليها البشرية، لكن الجواب الوحيد والمشترك والمؤكد في اعتقادنا بين جميع الأمم هو أن لا شيء سيكون كما كان من قبل كورنا، ستحدث تغييرات ويتغير وجه الأرض، وساعتها سوف تشرق شمس العالم بعد هذا الوباء، على أفق جديد متنوع الأقطاب سياسيا واقتصاديا.
سؤال كيف سيكون شكل العالم بعد نهاية جائحة كورونا؟ هو في صلب الأسئلة التي يطرحها الكثير من البشر الآن، فقد أضحى تمرينا فكريا للفلاسفة والعلماء والخبراء وعلماء الاجتماع والسياسة، كل من موقعه، ومرجعيته القيمية وحقوله المعرفية والإنسانية.
فلا محالة إذن أنه حين تنجلي غيمة كورونا المخيفة ستعيد كثير من الدول نظرتها السياسية والاجتماعية، أملا في الاستجابة السريعة لما يمكن أن يرشح من معطيات وخلاصات واستنتاجات لهذا الطارىء،
لقد مر العالم مر من أزمات مماثلة، كما هو الحال مع أزمة عام 2008 التي هزّت العالم بعواقبها المالية والاجتماعية، وحاول أن يتعافى منها، لكن لا أحد يتكهن بما سيكون عليه شكل العالم “ما بعد” نهاية كورونا؟ لكنه سؤال رهين بقدرتنا على فهم ما يجري من حولنا من الناحية الجيوسياسية والاقتصادية.
بعض من هذه الاستنتاجات الفكرية والعواصف الذهنية، قامت بها مجلة (فورن بوليسي، 20 مارس 2020) الأمريكية، بتوجيه هذا السؤال إلى (12) باحثًا ومفكرا ومنظرا عالميا من مختلف المدارس الفكرية، خاصة العلاقات الدولية الذين تغلب عليهم الثقافة الأمريكية (الأنجلوساكسونية) منهم تسعة أمريكيين، وواحد بريطاني، وآخر هندي، ثم واحد سنغافوري … ليتحدثوا عن وجهات نظرهم، وتحليلاتهم لشكل العالم بعد كورونا.
وأكدت المجلة الأمريكية، أنه كما سقوط جدار برلين، فإن جائحة الفيروس كورونا حدث مدمر على مستوى العالم، لا يمكننا أن نتخيل عواقبه بعيدة المدى، ولا نستطيع حتى اللحظة إلا التنبؤ ببعض الأمور البسيطة. لكن من المؤكد أنه مثلما أدى هذا المرض إلى تحطيم الحياة، وتعطيل الأسواق، وكشف كفاءة الحكومات، فإنه سيؤدي إلى تحولات دائمة في القوة السياسية، والاقتصادية بطرق لم تكن تخطر ببالنا.
ولأهمية ما نشرته المجلة، ارتأينا أن نشير إلى أهم الأفكار والتحليلات التي ذكرها عدد من هؤلاء المفكرين.
المنظر السياسي الأمريكي وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد “ستيفن ولت” الذي يعد من أهم منظري المدرسة الواقعية الدفاعية الجديدة في الولايات المتحدة، ونظرية توازن التهديد في حقل العلاقات الدولية، حيث يتوقع “ولت” بأن وباء كورونا سيقوي دور الدولة القطرية ويعزز القومية، وستتبنى الحكومات بجميع أنواعها إجراءات طارئة لإدارة الأزمة، وسيكره الكثيرون التخلي عن هذه السلطات الجديدة عند انتهاء الوباء الذي يتوقع أن يُسرّع من تحوّل السلطة والنفوذ من الغرب إلى الشرق؛ فعلى سبيل المثال، استجابت كوريا الجنوبية وسنغافورة بشكل أفضل للوباء، فيما ردت الصين بشكل جيّد بعد تجاوز أخطائها المبكرة.
لكن الاستجابة في أوروبا وأمريكا كانت بطيئة وعشوائية، بالمقارنة مع دول الشرق الأقصى، مما زاد من تشويه هالة “العلامة التجارية” الغربية.
في مقابل هذا التنبؤ الفكري، لا يخفى في نظر العديد من الباحثين، كيف أن كثيرا من الأمم استغلت الكوارث والحروب لتعلن عن نفسها كقوة عالمية أو إقليمية، وما حدث الحرب العالمية الثانية عنا ببعيدة، وهي التي سمحت لدول أن تعبر عن نفسها بقوة، بعد أن أصاب الدمار الشامل أوروبا الغربية واليابان ومناطق أخرى من المعمورة، بل تمكنت من أن تقود العالم بعد أن طورت نفسها على جميع الميادين، بعد تحقيقها تطورا اقتصاديا هاما.
في اعتقادنا أن المغرب ما قبل كورونا ليس هو ما بعدها، سيكون معنيا وهو يعد لنموذجه التنموي الجديد، أن يجري تقييما لكل ما يحدث داخليا وإقليميا ودوليا، خصوصا بعد الإجراءات والقرارات الملكية، التي أظهرت نجاعتها، على الرغم من التداعيات السلبية للجائحة.
إلا أن واجب الوقت يفرض استثمار كل الموارد البشرية واللوجستيكية والكفاءات السياسية والجمعوية، من أجل استخلاص العبر و الدروس مما حدث ويحدث أمام أعيننا. فكما أبانت الدولة على قدرة إمكانياتنا الخاصة، ونجحت في تعبئة مواردها البشرية وأطرها الوطنية الصادقة، فهذا النجاح يفرض عليها مزيدا من التعبئة، والاستمرار في إبداع مقاربات جديدة، سيكون المغرب موفقا إن هو نجح في استثمارها ولعب دور جيوسياسي واقتصادي جديد، بحكم موقعه الاستراتيجي وبفضل حنكة الدبلوماسية المغربية المتميزة.
إننا على يقين أن مغرب ما بعد كورونا، سيكون مليئا بالتباشير، إنها برأي العديد من المهتمين، فرصتنا السانحة لنقدم أنفسنا للعالم في أبهى حلة، من خلال تمثين الأواصر المتينة لبناء مجتمع متماسك اجتماعيا ومتضامن، يؤمن بجلال المعرفة، وبالقدرة على بناء المستقبل، متسلحين بالعلم والمعرفة وروح المبادرة، وممتلكين لمهارات القيادة والحياة، وهذا لن يتأتى إلا بدعم الكفاءات الوطنية، وقدرة أحزابنا المغربية، على إنتاج أفكار وتصورات جديدة، ستعزز من مكانة المغرب بعد إنجلاء هذا الوباء، وتقوي من مشروعه التنموي الجديد، وسط المنتظم الدولي الذي لا محالة سيتغير هو أيضا.
وهنا تبرز أهمية المبادرات الحزبية التي أكدنا عليها، وعلى أهميتها في بلورة وجه مشرق وجديد لمغرب ما بعد كورونا، كالمبادرة الوطنية التي أطلقها حزب التجمع الوطني للأحرار، بإشراف مباشر من الأخ الرئيس، عزيز أخنوش، من أجل إطلاق منصة تفاعلية لكافة المواطنين المغاربة بمختلف انتماءاتهم وفئاتهم لإعداد إستراتيجيات، ما بعد كورونا لبناء مغرب قوي مبني على مؤسسات قوية على رأسها القطاع الصحي والتعليم.
وشدد الحزب، أن المنصة الإلكترونية التفاعلية www.maba3d-corona.com التي أعدها بشراكة مع مؤسسة المنتدى، مفتوحة أمام جميع فئات المجتمع، بعيدا عن أي إقصاء أو حسابات، حزبية بغية إعداد تصور متكامل لمرحلة ما بعد جائحة كورونا.
إنها مبادرات حزبية، تؤكد ما ذهبنا إليه سابقا، وأن المغرب ما بعد وباء كورونا مطالب بالبناء على ما تحقق له من امتيازات جيوسياسية واقتصادية، فبلادنا ستكون محتاجة إلى كل آراء نخبها، وأطرها، وكفاءاتها، وطلبتها، وأساتذتها، ومفكريها، وسياسييها، وجمعوييها، وعقولها وأدمغتها المهاجرة… من أجل بلورة خطة عمل اقتصادية وسياسية واجتماعية ستعزز لا محالة من مكانة بلادنا وسط عالم ما بعد كورونا.
عبد الرزاق الزرايدي بن بليوط، رئيس لجنة الأطر داخل الحزب، وعضو هيئة المهندسين التجمعيين