كتبت جان هِرش: «إن هذه العلوم الإنسانية والاجتماعية تسلك مَسلك النَّمل الأبيض في الخشب، فهي تفرّغ الفلسفة من الدّاخل، وتحوّل رماداً مساءلاتها وبحثها عن المعنى. لا تقترح حلولاً لمشاكلها وإنّما تذيبها، مذيبةً الحقيقة، بل والكينونة نفسها. يختفي إمكان طرح السؤال، ومعه حسّ الحقيقة». هل يتعلق الأمر بنقد إبستيمولوجي صريح للعلوم الاجتماعية؟ أم أن الأمر لا يغدو أكثر من تعبير سيكولوجي متوحش عن أمومة الفلسفة المفقودة؟
أثناء ختمي لقراءة كتاب «الدّهشة الفلسفيّة.. تاريخ للفلسفة» للفيلسوفة السويسرية جان هِرش، الذي نقله في السنة الماضية إلى اللغة العربية الكاتب والمترجم المغربي محمد آيت حنا، عن منشورات الجمل، أثارني موقفها المشبوه من العلوم الاجتماعية والإنسانية. وهو موقف ليس بغريب عن الفلاسفة والباحثين في الفلسفة سواء بوصفها ميتافيزيقا، أو باعتبارها أنطولوجيا والحالة هذه. ما يثير للدّهشة في هذا السياق، هو أنّ موقفها هذا، جاء في سياق حديثها عن الوضع «الراهن» المأزوم للفلسفة، رغم قدم المؤلف الذي يناهز أربعة عقود، ومن ثمّة الحاجة إلى تجديد المهمة الحقيقية للفلسفة كما تراها، آنئد.
بحسب الكاتبة لقد أخطأت الفلسفة الرّاهنة إحدى مهمّاتها الأساسيّة. كونها لم تفكّر بما يكفي مِن العمق والدقّة في تقدّم العِلم والتقنية. في مقابل ذلك تطوّرت العلوم الإنسانية والاجتماعية، التي تدرس الإنسان والمجتمع والثقافة والتاريخ. تدرس الإنسان بوصفه فاعلاً تاريخياً. يُساهِم في إعطاء المجتمع شكله، الإنسان الواعي بذاته، الذي يدرك أنّه فانٍ، والذي يفكّر في مصيره، ويندهش. قد لا نختلف مع صاحبة الدهشة الفلسفية، لو أنها اكتفت بهذا القول، بل إننا نسجل انخراطنا الكامل في هذا الموقف. لكن الإشكال هو استدراكها بالقول: رغم ما أحرزته تلك العلوم من تطور منهجي قد يحاكي إلى حدّ ما الصرامة المنهجية للعلوم الطبيعية، فإنّها تبقى «عاجزة» عن القبض على ما ينتمي لـ»جوهر» الإنسان: الوعي بالذّات، الضمير الأخلاقي، القيم، المسؤولية، الحرية، المعنى. الشيء الذي ينتج عنه ضياع الكينونة والعلاقة الممكنة بالكينونة – أيْ تضيع الحقيقة. والحريّ بالفلسفة الرّاهنة، كما دأبت، أنْ تقبض على ذلك الجوهر المفقود للشرط الإنساني الرّاهن، ومن ثمّ استرجاع علاقتنا الممكنة كبشر بالكينونة أو الحقيقة. هذه هي مهمّة الفلسفة اليوم.
السؤال هو: كيف لعُلوم اجتماعية تمكنت إلى حد ما من محاكاة الصرامة المنهجية للعلوم الطبيعية، أن «تعجز»عن القبض في ما قد تنجح الفلسفة في القبض عليه؟ إلا إذا كان المقصود هنا بعبارة «جوهر» مقولات ميتافيزيقية أكثر منها موضوعات وإشكاليات قابلة للدراسة العلمية الاجتماعية، أم أن الفلسفة ما زالت تسعى إلى القبض على ذلك الجوهر السحري المفقود، الذي لا يراه إلا الفلاسفة، بوصفه صناعة فلسفية محضة. أما العلوم الاجتماعية فهي ليست ميتافيزيقا، إنها لا تدرس الجواهر، بقدر ما تدرس موضوعات ملموسة قابلة للملاحظة، أو تقبل التفكير فيها على نحو عياني أو فينومينولوجي، تبني موضوعاتها باستمرار، تتعامل مع الوعي والضمير والقيم والحرية والمعنى، كوقائع اجتماعية ناتجة عن أفعال بشرية فردية وجماعية، ولا تتعامل معها بالضرورة كأشياء خارجية، كما قد يفعل بعض أنصار علم الاجتماع الحتمي. إن العلوم الاجتماعية ليست وحدة أو كلية مطابقة لذاتها، و إنما هي تيارات و مذاهب، فرق و نحل، إتجاهات و مدارس، إبدالات و مفاهيم. أوليس فيلسوف العلوم أدرى بهذا؟ ثم كيف لعلوم تدرس الإنسان ككائن تاريخي واجتماعي وذات بشرية عاقلة وفاعلة، أن تفرغه من مضامينه وقيمه؟ متى ستكف الفلسفة عن اعتبار ذاتها ميتافيزيقا للحقيقة أو أنطولوجيا للحقيقة، أو كسلطة نهائية للحكم؟ ربما هذا هو قدر الفلسفة.
فلكي تبرز الفيلسوفة الضرورة الراهنية للفلسفة، قامت بطريقة أو بأخرى بالحطّ من قيمة العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ وكأنّها تريد أنْ تقول: لقد حان الوقت كي تستعيد الفلسفة مكانتها التي انتزعتها العلوم الاجتماعية والإنسانية. لهذا أشكّ في نقدها، لأنّه ينمّ إمّا عن قصور بنيوي في معرفة هذه العلوم من الداخل، أو يتعلّق الأمر بدوغمائية فلسفية معينة تقول بتملك الحقيقة، التي ضاعت بضياع سؤال كينونة الكائن: السؤال الأنطولوجي، وهل للسوسيولوجيا بخاصة والعلوم الاجتماعية بعامة، أن تتحول إلى أنطولوجيا للكينونة؟ طالما كان هناك نفور صريح وصارم، مُعلن عنه للفلسفة من حيث هي ميتافيزيقا عن العلوم، طبيعية كانت أو إنسانية. فمع تأسيس اللحظة العلمية الحديثة، بما هي لحظة قطيعة مع الميتافيزيقا الأرسطية، فالأورغانون الأرسطي الذي حلّ محلّه الأورغانون الجديد لفرنسيس بيكون، بالنسبة للعلوم الطبيعية، أو بالنسبة للعلوم الإنسانية والاجتماعية لاحقاً التي انفصلت بدورها عن الفكر السياسي والاجتماعي، وجدت الفلسفة نفسها في أزمة. الشيء الذي فرض عليها أنْ تعيد النظر في ميتافيزيقاها المتحجِّرة، و تعطي أولوية للإبستيمولوجيا في كل تفكير فلسفي في علاقتها بأبنائها العاقين: العلوم الحديثة. مُبتغية من وراء ذلك تحويل الفلسفة إلى إبستيمولوجيا للحقيقة، من شأنها أنْ تعيد الاعتبار لشمولية الفلسفة وأمومتها المفقودة.
مجمل القول: صحيح أنّ هناك نمطا من العلوم الاجتماعية والإنسانية، يلوح في الأفق الذي تهيمن فيه النزعة التقنية المحضة والتطبيقية الصرفة، قد يكون معنياً بهذا النقد الذي وجهته فيلسوفتنا، لكن ذلك لا ينفي ما قدّمته وتقدمّه مجالات معرفية كالأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والتاريخ والتحليل النفسي، على سبيل المثال لا الحصر، من تفسير وفهم للشرط البشري، بما يتضمنه من وعي وقيم ومعان… وهلم جرا. كما ينبغي عدم تسطيح مجالاتنا المعرفية آنفة الذكر، باسم عمق فلسفي قد يكون مفقوداً.
النقد الفلسفي للعلوم بعامّة وللعلوم الاجتماعية بخاصة، ضرورة إبستيمولوجية لتقدّم العلوم، لكن السؤال هو: هل كان من الضروري الحطّ من قيمة العلوم الاجتماعية للإعلاء من شأن الفلسفة، وإبراز ضرورتها الراهنة؟
عثمان لكعشمي ، كاتب مغربي