يطمح المغرب منذ سنوات، إلى تعزيز موقعه الاستراتيجي التفاوضي، ديبلوماسيا واقتصاديا عبر تنويع شراكاته وإبرام اتفاقيات للتبادل الحر، والتكثيف من علاقاته مع العديد من الدول.
وتم الانفتاح على أسواق جديدة، مستفيدا من كونه دولة تقع في مفترق طرق الأسواق العالمية، وتتوفر على مزايا جد هامة، على المستوى الجيوسياسي وحتى الاقتصادي، لأن مبدأ الانفتاح التجاري والاقتصادي، يعتبر دعامة أساسية للتوجهات العامة للسياسة الخارجية للمملكة المغربية. فمصلحة المغرب، تقتضي تنويع الشركاء الإقتصاديين، والانفتاح على محاور جديدة، كدول إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
منذ فترة جعلت المملكة المغربية من التعاون مع القارة الإفريقية خيارا استراتيجيا، حيث وضعت على رأس أولوياتها تعزيز وتطوير العلاقات في المجال الاقتصادي مع الدول الافريقية، في إطار تكامل إقليمي حيوي وشراكة جنوب- جنوب، فعالة و تضامنية. فهذا الخيار حسب المهتمين، لا يروم فقط الحفاظ على الروابط المتجذرة مع دول إفريقيا أو ضمان توازن أفضل في علاقاتها مع الاقتصاديات الصناعية، بقدر ما يهدف إلى جعل التنمية بإفريقيا التي تعاني الخصاص الاقتصادي رغم وفرة الموارد الطبيعية، عملا تشاركيا قائم على المصلحة الاقتصادية، ومن تم ينبغي تثمينه، ودعمه ديبلوماسيا وسياسيا.
بناتج داخلي خام يفوق 2000 مليار دولار، ومعدل نمو يقارب 5 %سنة 2014 ،أصبحت إفريقيا من الناحية الاقتصادية، قارة تزخر بمؤهلات واعدة وأصبحت على هذا الأساس، تشكل أولوية قصوى ضمن أجندات القوى الكبرى والفاعلين الاقتصاديين العالميين.
ووعيا من المملكة المغربية بالموقع الجديد الذي تتبوأه القارة الإفريقية في منظومة الاقتصاد العالمي، فقد بادرت إلى استباق التطورات عبر تبني مقاربة ترتكز على التنمية المشتركة والتضامن جنوب-جنوب وكذا على البعد الاجتماعي. وبفضل الرؤية الملكية السامية، المتوجهة نحو العمق الإفريقي، بدأ المغرب يشكل شيئا فشيئا منصة وبوابة اقتصادية ومالية نحو إفريقيا.
أولى المغرب أهمية كبرى لتطوير علاقاته مع محيطه الإفريقي، وقد أخذ هذا الخيار الاستراتيجي في عهد جلالة الملك محمد السادس، بعدا فريدا يدخل في إطار رؤية متوسطة وبعيدة المدى تهدف إلى إعطاء نفس جديد لعلاقات التعاون جنوب – جنوب.
حسب تقرير صادر عن مديرية الخزينة والمالية الخارجية، بوزارة الاقتصاد والمالية، فإن هذه العلاقات التي يجب أن تكون مبنية على الفعالية والنجاعة والمصداقية حتى تتمكن الشعوب الإفريقية من الاستفادة من خيرات وثروات القارة.
وتتجلى هذه الرؤية على أرض الواقع، حسب التقرير ذاته، في إبرام عدد كبير من اتفاقيات التعاون الثنائي، عقدت على هامش الزيارات الملكية لبلدان القارة والتي همت بالأساس في الإنعاش والحماية المتبادلة للاستثمارات، ومنع الازدواج الضريبي وخفض أو إلغاء رسوم الاستيراد.
وهي الاتفاقيات التي كشف التقرير، بأنها سمحت بوضع الإطار القانوني الملائم لتطوير علاقات الاستثمار العالمي بين المغرب ومختلف شركائه الإفريقيين، وهكذا، ارتفع حجم المبادلات التجارية بين المغرب وإفريقيا.
لا أحد يجادل إذن، في أن كلا من الاستقرار السياسي والاقتصادي للمغرب، قد ساهما في تحسين مناخ الأعمال وصورته أمام المنتظم الدولي، جعل منه نموذجا لدول جنوب الصحراء بالنظر لتجربته الرائدة في ميادين حيوية من قبيل تحديث الدولة وإرساء مبادئ الحكامة الجيدة ووضع استراتيجيات قطاعية وإنجاز مشاريع ضخمة في مجال البنية التحتية ومحاربة الرشوة والفساد.
أغلب المتتبعين، يرون أن إنشاء القطب المالي للدار البيضاء، لعب دورا هاما في ترسيخ دور المغرب كبلد ميسر للمبادلات التجارية والمالية العالمية. على اعتبار أن الهدف الرئيسي من وراء خلق هذا القطب هو جلب الرساميل الأجنبية والعمل على إعادة استثمارها بشكل جيد، وذلك من أجل مواكبة مرحلة النمو التي يعرفها الاقتصاد الوطني.
وتجسيدا لهذا التوجه الاقتصادي للمغرب نحو افريقيا، تم اختيار القطب المالي للدار البيضاء سنة 2013 من قبل البنك الافريقي للتنمية من أجل احتضان صندوق “إفريقيا 50 “، الذي يهدف إلى تمكين القارة الإفريقية من حيازة آليات مبتكرة من شأنها الرفع من مستوى تعبئة الموارد وجلب تمويلات خاصة لتنمية وتمويل مشاريع البنية التحتية في إفريقيا.
من دون أن ننسى الأهمية الاستراتيجية، لمختلف اتفاقيات التبادل الحر التي وقعها المغرب مع العديد من الدول (الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، الدول المتوسطية)، حتى أصبح المغرب منفذا لشركائه التجاريين وللمستثمرين، من أجل تحقيق مكاسب مادية واستثمارية هامة.
بالنظر إلى الاهتمام الذي أبداه المغرب للعمق الافريقي، لاحظنا بالتوازي مع هذا الاهتمام كيف نجحت الدبلوماسية المغربية أيضا، في رسم سياسة ديبلوماسية جديدة مع مجموعة من دول أمريكا اللاتينية والجنوبية، شكلت خلفية للجولة التي قادت الملك محمد السادس حفظه الله، شخصيا منذ سنوات لهذه الدول. فلا يخفى أن حرص جلالته على تنويع الشراكات، مع هذه الدول شكل محورا مهما مميزا للسياسة الخارجية للمملكة المغربية، وذلك من خلال فتح آفاق جديدة ومبتكرة للتعاون، وكذا تحسين الفرص التي يوفرها الشركاء المختلفون للمملكة على الصعيد الدولي.وتعد دول أمريكا اللاتينية، وفي مقدمتها دولة البرازيل، واحدة من دوائر الاهتمام الرئيسية للتعبير عن هذا الحرص المغربي لتنويع الشراكات الخارجية لبلادنا.
فجميع المتتبعين لهذا المسار مجمعون أن الزيارة التي قام بها الملك محمد السادس، لهذه الدول، في عام 2004، هي مثال حي على الاهتمام المغربي، أسهم في ضخ نفس جديد، واعطاء دفعة قوية للعلاقات بين المغرب ودول أمريكا اللاتينية.
في سياق هذه الدينامية، قام السيد ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي، في صيف السنة الماضية، بجولة قادته الى خمس دول أمريكية، أجرى خلالها محادثات مع رؤساء هذه الدول ومسؤوليه من وزراء وبرلمانيين، كما تم التوقيع على عدد من الاتفاقيات التي تهم التعاون في المجالات ذات الاهتمام المشترك.
وشكلت هذه الجولة فرصة لإظهار رغبة المغرب في التموقع كأول محاور عربي وإفريقي لدول أمريكا اللاتينية، وذلك من خلال تطوير علاقات الصداقة والتعارف المتبادلة الموجهة نحو المزيد من العمل و التعاون الشامل.
الزيارة الى بلدان أمريكا اللاتينية، أتاحت لوزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي، ناصر بوريطة، فرصة لتعزيز العلاقات القائمة من حيث الكم والنوع، فقد تم خلال اجتماعات وزير الخارجية المغربي مع نظرائه من البلدان الخمسة، التوقيع على 12 اتفاقية، تهم مجالات استراتيجية مختلفة.
كما تم توقيع 7 اتفاقيات مع دولة البرازيل، تشمل مجالات، الدفاع، وتيسير الاستثمار والتعاون القضائي وفرض الازدواج الضريبي، وكذا تكوين الدبلوماسيين الشباب.
وتم مع الجمهورية الدومينيكية، بالإضافة إلى البيان المشترك الصادر في أعقاب هذه الزيارة، على اتفاقية بشأن الإعفاء من التأشيرات وتسهيل التجارة، كما يحدد البيان المشترك بين المغرب والسورينام، منظورا جديدا لتجديد التعاون بين البلدين، فيما تشكل خريطة الطريق، التي تم توقيعها مع السلفادور، أساسًا جديدًا للعلاقات الثنائية بين البلدين.
فبعد أيام قليلة من المقرر انعقاد الاجتماع المقبل بين المغرب والميركوسور خلال النصف الأول من العام المقبل بالرباط.
فقد بدأ المغرب يقتحم السوق اللاتينية لتوقيع اتفاقية التبادل الحر مع دول البرازيل/الأرجنتين/بارغواي والأوروغواي.
وشرع المغرب أيضا، وتكتل السوق المشتركة لأمريكا الجنوبية (الميركوسور) مؤخرا ببرازيليا، في إجراء مفاوضات تقنية من أجل إقامة منطقة للتبادل الحر.
وسلط الجانب المغربي، خلال اجتماع عقد بداية الأسبوع الجاري بمقر وزارة العلاقات الخارجية البرازيلية، الضوء على استراتيجية الانفتاح الاقتصادي للمملكة، على الخصوص في مجال اتفاقيات التبادل الحر والاتفاقيات التجارية التفضيلية، وكذا السياسة الصناعية ومناخ الأعمال بالمغرب.
كما أبرز الوفد المغربي، الذي يتشكل من ممثلين عن وزارة الصناعة والتجارة والاقتصاد الرقمي، والوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات والصادرات، التقدم المحرز في مجال تيسير التبادلات التجارية (الشباك الوحيد للجمارك ونزع الطابع المادي على عمليات الاستيراد والتصدير).
إن ميزة التحرك الديبلوماسي المغربي، وانفتاحه على دول افريقيا ودول أمريكا اللاتينية، تتجلى في قيامه بتحرك جديد، مؤطر بخلفية دبلوماسية مغربية تعتمد على تنويع الشراكات الاقتصادية و إقامة علاقات سياسية تقرب من وجهات النظر في مختلف القضايا الحيوية. فبشهادة الجميع، باتت العلاقات المغربية- اللاتينية تعيش منذ مدة تغيّرا كبيرا يتجه نحو تعزيزها وتعزيز الشراكات المتنوعة التي تجمع المغرب بهذه البلدان، سواء ثنائيا كما هو الحال مع الشيلي والبرازيل والدومينيكان، أو مؤسساتيا مع المؤسسات البرلمانية لهذه الدول في بعدها الإقليمي كما هو الحال مع برلمان الأنديز. فقد كان من ثمار هذا التحرك أن وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، أعلنت أن المملكة المغربية، حظيت بصفة عضو ملاحظ لدى مجموعة دول الأنديز خلال الاجتماع الـ20 للمجلس الرئاسي لهذه المجموعة المنعقد، قبل شهور ببوغوتا.
وأوضحت الوزارة، في بلاغ لها، إلى أن هذه الصفة التي منحت للمملكة، كأول دولة عربية وإفريقية، تأتي لتعزيز مكانتها كمحاور مفضل في منطقة أمريكا اللاتينية، ولترسيخ موقعها كشريك موثوق به، في سياق دولي يتسم بالترابط الاقتصادي والتفاعل الثقافي.
وأبرزت الخارجية المغربية، أن هذه العضوية تمكن من تعزيز مسلسل التقارب بين المغرب ودول أمريكا اللاتينية، وذلك في سياق تعزيز سياسة الانفتاح التي حث عليها صاحب الجلالة الملك محمد السادس، مذكرة بأن المغرب يحظى بصفة عضو ملاحظ في تسع منظمات إقليمية: أربع منها ذات طبيعة برلمانية (برلمانات أمريكا الوسطى (بارلاسين)، ومنتدى رؤساء برلمانات أمريكا الوسطى والكاريبي (فوبريل)، والأنديز (بارلاندينو)، وأمريكا اللاتينية والكاريبي (بارلاتينو)، وأربع أخرى ذات طبيعة سياسية (منظومة التكامل في أمريكا الوسطى (سيكا)، منظمة الدول الأمريكية، والأمانة العامة الإيبيرية الأمريكية، رابطة دول الكاريبي) وتحالف المحيط الهادئ ذي الصبغة الاقتصادية.
وكشفت الوزارة، ان التحاق المغرب بمجموعة دول الأنديز، التي تضرب بجذورها في التراث التاريخي والثقافي المشترك، وكذا التأثير اللغوي، يشكل اعترافا بالإصلاحات التي قام بها جلالة الملك لبناء مغرب حديث وديموقراطي.
وتعد مجموعة دول الأنديز، التي تأسست سنة 1997، هي مجموعة إقليمية تضم كدول أعضاء كلا من بوليفيا والبيرو وكولومبيا والإكوادور، وتمثل حوالي 23 في
المائة من مساحة وساكنة أمريكا اللاتينية.
وكخلاصة لما تقدم ذكره، فإن التوجه الديبلوماسي للمملكة، صوب دول أمريكا اللاتينية والجنوبية يسعى بنظر المهتمين، إلى تحقيق نفس المكاسب الاقتصادية والسياسية التي حققها داخل إفريقيا، ليس فقط لصالح المغرب، بل لصالح مختلف شعوب القارتين، وهو الرهان الحقيقي للمغرب.
لقد بدأ عهد جديد في علاقات المملكة مع دول مثل البرازيل والشيلي، وجمهورية الدومينيكان والسلفادور وكوستاريكا وغواتيمالا وكوبا، في إطار إعادة تشكيل المعطى الجيواستراتيجي في المنطقة، الذي يعزز من الفرص المغربية، في بناء مستقبل العلاقات مع بلدان أمريكا الوسطى، الذي يبدو واعدا من أجل تعاون جنوب ـ جنوب يعود بالنفع المتبادل على المنطقتين، اللتين تواجهان تحديات مشتركة، لكن تحذوهما إرادة راسخة للرقي بعلاقات التعاون.
لهذا ودعما لمواكبة هذه الدينامية الدبلوماسية، وجب تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي والرياضي، من أجل فهم أفضل لهذه المنطقة، والدفاع بشكل أفضل عن الاستراتيجية المغربية فيها.
إن تعزيز الانفتاح الاقتصادي مع دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية، يساعد بلادنا على تحسين مؤشرات النمو الاقتصادي، وجلب الاستثمار الاجنبي، وتعزيز موقعها الجيواستراتيجي، وتطوير قطاع الخدمات، لهذا وجب دعم كل المبادرات الجمعوية، وتعزيز الترسانة القانونية التي تضمن مصالح الاقتصادية الإستراتيجية للمغرب، في زمن التحولات والتكتلات بين الدول خصوصا بعد أزمة وباء كورونا.
بقلم : عبد الرزاق الزرايدي بن بليوط رئيس مجموعة رؤى فيزيون الإستراتيجية و رئيس مكتب غرفة التجارة المغربية الإفريقية البرازيلية بالمغرب