في أحد أيام شهر سبتمبر من سنة 1986 بالخط الدفاعي للقوات المسلحة الملكية ، وبالضبط عند نقطة الدعم رقم 15 التابعة لشبة قطاع ايمليلي التابع لقيادة منطقة وادي الذهب ، كنت حينئذ برتبه ليوتنان قائد السرية الخامسة للفوج 44 ، في أحد الأيام الجميلة بصفاء سماءها وهدوء جوها و وضوح الرؤيا إلى مدى يتجاوز عشرين كيلمترا بحيث أن العدو يتحاشى التحرك في هذه الظروف احتياطا منا.
كان العدو في تلك الأيام يقصف مواقعنا نهارا ويهاجمنا ليلا ، تعودنا عليه وتعود علينا ، سأحكي لكم مغامرة كنت سأسقط فيها بين يدي العدو أسيرا أو قتيلا ، فبعد العصر قررت زيارة قديمي اليوتنان إيتاس ittass قائد بطارية المدفعية والمتواجدة خلف الخط الدفاعي بكيلومترات قليلة لكسر روتين الحياة اليومية في نقطة الدعم التي كنت فيها ، كان هذا اليوتنان أيضا شابا أكبر مني بسنة أو سنتين ، وكانت بطاريته تشكل الدعم الحقيقي لنا في كل هجومات العدو أو أقصافه ، شاب من سطات ومحارب شرس لا يتوانى في ردم فلول مرتزقة البوليساريو التي تهاجمنا أو تمطرنا بالقصف بالليل أو النهار ، صواريخ مدفعيته من نوع أورغ ستالين ومدافع ثقيلة من عيار 155 مم مثل مدافعنا في الخط الدفاعي ورشاشاتنا من عيار 14،5 و12،5 وغيرها ، وعزيمة الرجال وإيمانهم هي من ردعت الهجمات الشرسة التي تعرضنا لها في سنوات 1986،و 87 و88 ، وهنا أريد أن أؤكد أنه من تجربتي تلك السنوات فإن العدو لا يردعه غير النار، يوجد الكثير مما يحكى عن صمودنا وتضحيتنا وصبرنا في ظروف قاسية منها الطبيعية ومنها اللوجستيكية وأخرى تتعلق بالعدو ، قررت إذن زيارة قديمي قائد لبطارية المدفعية التابعة لمفتشية المدفعية الملكية، وبما أن المسافة قريبة،حوالي أربع كيلومترات ،فإنني كلفت نائبي في نفس نقطة الدعم التي أنا قائدها وقررت ألا اصطحب معي l’opérateur radio ، ذهبت فقط مع السائق محمد بشير وكان شابا بمؤهلات على المستوى الأعلى في قيادة السيارات القتالية وفي معرفة الأرض وشؤون الحرب. بحيث كنت أرسله بمعية جندي آخر إلى العركوب الذي يوجد خلفنا ب100 كلم على شاطيء البحر حيث قاعدتنا الخلفية ، كنت أرسله لأمور إدارية، و كذلك ليجلب لنا السمك الذي افتقدناه مند تمديد الخط الدفاعي للقوات المسلحة الملكية جنوب العركوب ليؤمن أم دريكة ، بئر انزران ومنطقة امليلي ،وابتعدنا من الماء والبحر وخيراته التي كانت تغنينا عن أغلب المؤن العسكرية.
كان السائق محمد البشير يعود حتى بالليل إلى نقطة الدعم بحمولات من السمك تدعم مؤن مقاتلينا. لم يته ولو مرة واحدة بالليل، خصوصا في صحراء منبسطة وكلها مخططة باتر عجلات السيارات العسكرية ، و في إحدى المرات هجم العدو بالليل على نقطة الدعم التي كنت قائدها وجرح جنديان أحدهما mon opérateur radio ، إسمه إدريس العايدي. كان علينا إخلاؤهما ، ولكن ليس بالهيليكوبتر لأنها لا تستطيع التحليق ليلا والإقتراب من الخط الدفاعي ، بل بمدرعة ذات ست عجلات حاملة جنود لاتساعها ، وصلت المدرعة و قد أحضرنا الجنديين الجريحين، ولكن إدريس كان مصابا بشظية في ذراعه فقط وكان واقفا يتحدث معنا وطلب من أصدقاءه تزويده بمال لشتري به ما يلزمه وهو بالمستشفى بالداخلة، خصوصا السجائر، ثم انطلقت المدرعة بهما في اتجاه الداخلة وكأنها تبحر في عباب ظلام الصحراء، في الليل بدأت تصلنا أسئلة بالراديو عن المدرعة التي نقلت الجريحين، فأدركنا أنها ضلت الطريق، وفي الصباح وصلنا خبر وفاة الجريحين، لقد جفا من الدم النازف منهما لأنهما لم يصلا قبل الصباح، لكن عمليات إخلاء الجرحى بالنهار كانت القيادة قد خصصت لها طائرات هليكوبتر ،تنزل خلف الخط الدفاعي بكليلومترات فتجدنا في الانتظار وقد نقلناهم إلى نقطة متفق عليها مسبقا. إذن ذهبت لزيارة قديمي اليوتنان Ittass بعد العصر والجو هادىء ودافء وصافي وليس هناك ريح. جلسنا ساعتين أنا وهو والمرشح Lakbir Ouhmani وهو L’officier de tir بنفس بطارية المدفعية الملكية التي يقودها قديمي Ittass، للإشارة فبإمكاني الإتصال بوحدتي في أي لحظة بوسائل راديو متوفرة في بطارية المدفعية التي أنا بصدد زيارة قائدها وإصدار أوامر في كل الأحوال خصوصا إذا حضر العدو، وكنت أهم بالمغادرة وإذا بنا نشاهد زوبعة في الأفق آتية من الجنوب الغربي في اتجاهنا بسرعة غريبة، ناديت على السائق محمد بشير وانطلقنا نحو موقع وحدتي بعد توديع سريع لمضيفينا، وما إن غادرنا بلحظات حتى لاقتنا الزوبعة وكأنها موجة تسونامي أطبقت علينا ، ريح صرصر عاتية خيمت على المنطقة، فتوقفت السيارة لأننا أصبحنا في ظلام دامس قبل وقت المغرب، لم نعد نرى شيئا غير الظلام ، ثم بدأت قطرات من المطر تنبئ باقتراب سحب ممطرة، فكان علينا الالتحاق بمركز قيادتي لأنني في تلك اللحظة سقطت في حالة ضياع، فلا أنا بقيت في موقع بطارية المدفعية حيث وسائل الإتصال متوفرة، ولا انا وصلت إلى مركز قيادتي بنقطة الدعم التي كنت قائدها ، والخطر الأكبر كان يكمن في إمكانية تسلل العدو إلى داخل الخط الدفاعي مستغلا الظروف المواتية له ويقبض علينا لأننا لم نكن مسلحين، لقد ذهبنا في واضحة النهار والجو صافي ولا شيء يعكر صفو ثقتنا ، وفي مرات عديدة تمكن العدو من اقتناص أفراد معزولين عن ترتيب وحداتهم لظروف خاصة، بدأنا بالتصرف للالتحاق بسرعة بوحدتنا فأصبحنا نحبوا ونتلمس الأرض للتعرف على التربة التي تتواجد عليها نقطة الدعم رقم L15 ، هذه النقطة أقيمت على أرض بها تراب احمر وصلب تموج فوقه رمال خفيفة كلما هبت الرياح ، وكانت هذه الرمال تدفننا ونحن أحياء لأن المنطقة معروفة برياح شمالية وكانها في ممر ريحي كما الحال بالنسبة لمناطق كثيرة بالصحراء ،ويطلق على المكان بالضبط ثيارت الحمير Tayarth Alhommir، لكن هذه المرة كما في الخريف هبت الريح أقوى واشد من الجنوب الغربي وهو وقت الأمطار الموسمية التي تعرفها موريتانيا وجنوب الصحراء حتى تيرس الغربية Tiris algharbia ، حبوت أنا والسائق البشير،مرة يسوق لأمتار ومرات ننزل لنتلمس الأرض في ظلام دامس كان لا زال يخيم على المنطقة مقرونا برياح عاتية دليل عواصف رعدية تقترب من المنطقة، كان الرمل يلطم وجوهنا واعيننا تؤلمنا ولا مناص لنا من مقاومة الألم الذي لم نعد نحس به ونحن نقاوم من أجل الخروج من وضعية الضياع التي سقطنا فيها…… والحمد لله أن سائءقي محمد بشير كان له حدس حاد وربما قدرات أخرى استطاع أن يسير بي إلى حيث النجاة، بحيث في لحظة من اللحظات وجدنا أنفسنا في مدخل نقطة الدعم، كما أن الجندي الذي كان يرصد محرك السيارة وتحركنا لم يطلق علينا النار، لأن أفراد وحدتي كانوا على علم بأنني خارج نقطة الدعم ، و كثير من المرات كان العدو يتسلل في مثل هذه الظروف وينتهز الفرصة لاقتناص أفراد معزولين عن ترتيب وحداتهم.
والخلاصة ، إن إختيار الأفراد حسب مؤهلاتهم للقيام بالمهام المنوطة شرط من شروط نجاح أي مهمة ، فسائقي محمد البشير كان مقاتلا يتوفر على مؤهلات عالية كما ذكرت ، من بينها الميكانيك، يمكنه إصلاح الاعطاب المعقدة في كل السيارات وحتى الشاحنات، كما كان رجل ثقة اتذكره دائما و أشعر بالفخر مكانه، و هو أيضا يتذكرني وأرسل لي السلام سنوات التسعينيات حين كنت في مركز تدريب المشاة بقصبة تادلة.
بقلم اليوتنان – كولونيل المتقاعد عبد الرحيم العبوبي