تلقيت الأوامر بالانتقال إلى نقطة الدعم رقم 17 في الخط الدفاعي لمنطقة وادي الذهب والمتواجدة جنوب شرق العركوب على سلسلة جبال أكركر Aguerguer ، كان ذلك بعد إصابة المرحوم اليوتنان محمد الصدفي في الرأس بشظية نيران العدو في أحد أيام فبراير من سنة 1985. كنت آنذاك ليوتنان قائد السرية الخامسة للفوج 44 والمنتشرة بنقطة الدعم رقم 16 بنفس الخط الدفاعي. كان الموقع الذي جرح فيها الضابط المذكور الأكثر تعرضا لقصف العدو وكان يطلق عليه إسم بيروت تشبيها له بالعاصمة اللبنانية أثناء الاجتياح الإسرائيلي آنذاك . وصلت حالا إلى الموقع الذي سأمارس فيه قيادة السرية الأولى بالنيابة أثناء غياب اليوتنان محمد الصدفي الذي أصيب في الرأس وتم إخلاؤه إلى المستشفى العسكري الرابع بالداخلة . كان انتشار السرية في الموقع المذكور على هضبة في أطراف جنوب جبال أكركر Aguerguer ،وعند مدخل الموقع وعلى كل مساحته كانت أثار قداءف هاون العدو ترص الأرض وهو دليل إسم بيروث الذي كان يطلقه عليه الجنود. لم يكن لدي ولا كل ضباط الفوج 44 الذي ننتمي إليه أية صعوبة في ممارسة مهام القيادة الموكولة لنا لأننا كنا بمثابة أسرة واحدة ونعرف الجنود باسماءهم وكذا وضعية وحالة السلاح والعتاد الذي تتوفر عليه كل سرية على حدة ،كما أن أغلبنا خاض معارك سابقة ومنها هجوم لمسيد الذي كان حربا حقيقية. كان القصف يوميا على الموقع نظرا لأهميته التكتيكية لأنه يشكل الزاوية التسعين للخط الدفاعي لوادي الذهب ومنه يتجه مسار نفس الخط نحو المحيط الأطلسي جنوب العركوب. ولاستحالة سرد كل ما حدث بعد وصولي خلال مدة نيابتي في قيادة الوحدة المذكورة سأحاول وصف أحداث يوم مشهود خلال تلك الفترة. كان يوم 17 فبراير 1985 من الأيام التي لم أنس تفاصيلها أبدا إلى يومنا هذا. رصد الرادار اقتراب آليات العدو في إتجاه موقعنا كما العادة وكان ذلك اليوم فيه غمام brume يحد الرؤية إلى مجال قريب جدا بحيث بدون الرادار لآ يمكن رصد اقتراب الآليات المعادية وعلى مسافة أزيد من عشرين كيلومترا. فبدأنا بالتحضير للرد على القصف القادم لأن عدد الآليات التي رصدها الرادار لم تكن تتجاوز ستة أي أنه لن يكون هناك هجوم كبير بل القصف كما العادة. نسقت مسبقا مع مجموعة الهاون 120مم التي يتوفر عليها الموقع بحيث أن الرادار وكذا خارطة المنطقة تمكن من الرد بدقة وفعالية على القصف حتى والعدو متستر بالتضاريس والرؤية المنعدمة. حضرنا الرد الذي أردناه سريعا ومفاجئا للعدو وهو من كان يظن أنه يمتلك عنصر المفاجأة. بحيث أن معرفة مدى مدافع العدو وقاعدتها المفترضة مكنتني بتوافق مع مساعدين خبراء معي في المرصد الذي كنت أراقب منه وأستعمله كخندق للقيادة من التخطيط لرد غير مألوف لذى العدو الذي تعود على قصفنا بسرعة والانسحاب قبل أن يصاب بنيران مدافعنا . وبمجرد سماع صوت الضربة الأولى ردت مدافعنا في إتجاه قاعدة إطلاق النار المعادية. والمتفق عليه أن يستمر الرد ولكن بزيادة في المدى والاتجاه يمينا لأن العدو كان يتواجد في وادي منحرف oblique . لم نترك للعدو أية فرصة للإفلات من قذائف مدافعنا التي كانت أكثر سرعة وفعالية مما كان يتوقعه. وفعلا سكتت مدافعه بعد القديفة الثالثة، في حين اتممنا خطة تشطيب الوادي بالقصف ذهابا وايابا fauchage . كان واضحا أننا قمنا بتلقين درس للوحدة المعادية التي كانت تقصفنا كل يوم دون أي هم sans souci. كان اليوتنان كلونيل احمد أقلعي قاءد الفوج 44يدخل مباشرة في réseau radio للوحدة المعنية بهجوم أو قصف ويتابع الأحداث والتطورات ولا يتدخل إلا لتوجيه أو السؤال عن الوضعية واستهلاك الدخيرة وبصفة مقتضبة لا تعيق عمل قائد الموقع الذي يعتبر المسؤول الأول عن سير العمليات. إنتهى القصف والتحقت ومعي جهاز راديو لاهنيء ضباط الصف والجنود الذين قاموا بعمل رائع. ومرت ساعة تقريبا وأنا لا زلت اتفقد حالة المدافع والدخيرة تحضيرا للمهمة التالية فإذا بانفجار يضرب وسطنا في حوزة مواقع الهاون التي يبعد الواحد منها من الآخر بحوالي خمسين مترا . لم نسمع صوت إنطلاق القصف الجديد. كانت نتيجة ثاتي قداءف العدو كارثية بحيث قصمت ضهر الجندي الذي كان يحمل جهاز الراديو الذي به اتواصل مع قادة الفصائل وكذا مع قيادة الفوج. شظية قديفة بحجم اليد قصمت ظهره وسلاحه الذي كان يتحرف به لتكون يداه متحررتين لأنه يحمل الراديو بيديه معا وعلى صدره ،و يبدل الموجة عند الحاجة كما العادة في هذه الحالة. أنا كنت أتحدث مع نائبي الذي بقي في المرصد ومعه أجهزة إتصالات أخرى تمكنه من إستمرار القيادة حتى في حال إنقطاع الإتصال مع قاءد السرية(انا) ،وهو ما آلت إليه الوضعية بعد القصف الغادر الثاني للعدو بحيث اصيب جهاز الراديو بعطل . أصيب جندي آخر في الكتف وزحف حتى وصل خندقه وأسعف نفسه بمساعدة رفاقه لأنه كان ممرض الوحدة . بعد إنفجار القديفة الثانية والتي قصمت ظهر الجندي الشهيد تكادي اديه Tagaddi Iddih وهو شاب صحراوي متخصص في الإشارة transmissions لم أصب أنا بأذى لأن جسد المرحوم الشهيد شكل درعا حماني وإلا لم أكن لأنجو نظرا لسقوط القديفة على مسافة خمسة أمتار منا ومدى فعالية القديفة خمسون مترا. لم أضع الوقت ولم اكن أعرف إن كنت مصابا في أحد أطرافي السفلية أم لا واتجهت نحو المرصد التي يتواجد به ناءبي وضابط آخر برتبة مرشح(1) وهو الذي يقوم بتوجيه قصف المدفعية الثقيلة التابعة للمدفعية الملكية بالمنطقة والتي تتواجد إحدى بطارياتها في الخلف على مسافة خمس كيلومترات. كنت اقتربت من المرصد فإذا بقديفة أخرى تستهدفني وسمعت صوت حفيفها العنيف ولم أسمع صوت انفجارها لأنها لم تنفجر، ولو كانت انفجرت لما بقيت حيا لأنها سقطت أمامي بخمسة أمتار. وصلت المرصد وكانت مدافع بطارية المدفعية الملكية آنذاك ترد على مصدر نيران العدو بتوجيه من الضابط المتواجد معنا في المرصد . ما الذي حدث إذن وقد لقننا العدو درسا قاسيا ذلك الصباح؟ بعد إصابة وحدة العدو المكلفة بقصفنا ذلك الصباح، ووصول أنباء عن الخسائر الكارثية في صفوفه وعتاده، هبت وحدة أخرى لإغاثة المنكوبين ولكن بمدافع أكثر تطورا وذات مدى أبعد بحيث قصفتنا من مسافة أبعد من القصف الأول. وهذا سبب عدم سماعنا للطلقة الأولى. وحتى وإن كنا سمعنا فذلك لن يكون له تأثير على النتائج لأن الحرب هكذا ، فيها التخطيط والتخطيط المضاد والخدعة. وبعد أن انتهى القصف والقصف المضاد تم إخلاء الجندي الممرض واسمه عبد الكريم والذي أصيب في كتفه و وافاه الأجل بعد ذلك بأيام . وفي نفس اليوم بعد حلول الظلام، رصد الرادار آليات كثيرة وصوت محركات آليات تناور في نفس المكان وكأنها تجر آليات أخرى معطلة وهي في الغالب لخسائر العدو في قصف الصباح الذي لم نترك له خلاله فرصة للنجاة. فتولت هذه المرة أيضا مدافع بطارية المدفعية الملكية القصف المركز والفعال بتوجيه من الرادار ودام الوقت الكافي لإبادة جل من تواجد في المكان. وبعد أشهر قليلة سيمتد الحزام الأمني ليضم بئر انزران وام دريكة وسينتشر الفوج 44في منطقة الفوشFuch حيث سنعيش أقسى الظروف وسنواجه العدو الذي كان يقصف مواقعنا نهارا ويهاجم ليلا . لكن الرجال الذين واجهوا العدوان في تلك المرحلة كانوا أقسى من الظروف وأشد شراسة من العدو… (يتبع )
بقلم الضابط السامي المتقاعد في القوات المسلحة الملكية عبد الرحيم العبوبي
(1)نظرا للأهمية التكتيكية للموقع وكذا تواتر القصف ومحاولات الهجوم عليه من طرف العدو فقد عينت قيادة المدفعية الملكية ضابطا برتبة مرشح بدل ضابط صف ليكون مراقبا وموجها لنيران المدافع ويكون خبيرا – مستشارا لقائد الموقع المذكور . هذا الضابط المرشح هو لكبير اوحماني Lakbir Ouhmani وهو اليوم متقاعد برتبة Lieutenant Colonel. _ الصورة لي في ذلك التاريخ وقد أخذها لي مصور جلبته القيادة لينجز صورا لكل الجنود وهم في مواقعهم لغرض الحصول على بطاقة التعريف الوطنية.