عادل بن حمزة ، محلل سياسي
يخلد المغرب يوم غد السبت 20 آب (أغسطس) الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب، ففي 20 آب 1953 امتدت أيدي الاستعمار الفرنسي الغاشم إلى الملك محمد الخامس والأسرة الملكية، وذلك بنفيهم إلى مدغشقر عقاباً للملك على مواقفه المناهضة للاستعمار وتنسيقه مع الحركة الوطنية. تحل هذه الذكرى التي تؤرخ لحدث فريد على المستوى العالمي في لحظة ما زال المغرب يعمل على تحقيق أهداف الاستقلال، أو كما قال الملك محمد الخامس نفسه عند إعلان الاستقلال بعد عودته منتصراً من المنفى، إن المغرب خرج من الجهاد الأصغر الذي هو طرد المستعمر، إلى الجهاد الأكبر وهو بناء الدولة على أسس عصرية وتحقيق الكرامة للمغاربة.
أهمية الذكرى وما ترمز إليه من حدث تاريخي كبير في تاريخ الأمة المغربية، تظهر أهمية الاحتفاء بها والاسترشاد بما تمثله من دروس كبيرة في التضحية وفي التعبئة الوطنية، غير أن الملاحظ في السنوات الأخيرة أن هناك نوعاً من التراخي في الاحتفاء بالذكريات الوطنية، إذ يتعامل معها البعض فقط كعطلة مدفوعة الأجر، فمظاهر الاحتفاء تخفت وتتراجع سنة بعد أخرى، بخاصة بالنسبة إلى الأجيال الجديدة التي تعتبر في الواقع ضحية قطيعة مع مرحلة هامة وفاصلة في تاريخ البلاد، كما أن الإهمال الذي يعرفه الاحتفاء بمعارك الاستقلال، يمثل أيضاً نوعاً من الإنكار والجحود لجموع الشهداء الذين سالت دماؤهم الزكية لكي تقوم للمغرب قائمة.
إن المفارقة التي يمثلها الاحتفاء المحتشم بمعارك الاستقلال المجيدة، تتمثل في كون أثر الحركة الاستعمارية ما زال ممتداً إلى اليوم، بخاصة من زاوية استكمال الوحدة الترابية للمغرب، إذ ما زال أثر الفعل الاستعماري يمثل وقوداً للصراع المفتعل حول الصحراء المغربية وعبره توتر إقليمي مصطنع يتم توظيفه لابتزاز المغرب وللحد من طموحاته في أن يكون دولة صاعدة ونموذجاً في محيطها الإقليمي. فإذا كانت الحركة الاستعمارية سبباً مباشراً في ظهور عدد من الدول في المنطقة، فإنها في ما يخص المغرب كانت سبباً في المس بوحدة تاريخية وبأمة ممتدة عاشت موحدة وتتقاسم الكثير من القيم لقرون طويلة قبل المد الكولونيالي، لذلك يصبح التفكير في أثر حركة الاستقلال والاستعمار في الحاضر والمستقبل، تمريناً فكرياً في غاية الأهمية، بخاصة بالنسبة إلى المجتمعات التاريخية كالمجتمع المغربي الذي يضرب عميقاً بأصالته في جذور التاريخ، من زاوية رسوخ الدولة واستمرارها على مدى أزيد من 12 قرناً وما سبقها من دول، في الوقت الذي ما زالت مجتمعات أخرى تعيش أزمة في ترسيخ فكرة الدولة وفي البحث عن هوية جامعة، وما لذلك من أثر في سلوك أنظمتها على المستوى الداخلي أو الخارجي.
تجدر الإشارة إلى أن النواة الأولى التي تشكلت منها شرارة الحركة الوطنية المغربية، إنما كانت عقب إصدار السلطات الاستعمارية ما سُمّي بالظهير “البربري” في 16 أيار (مايو) 1930، حيث عمد عدد من العلماء الوطنيين إلى قراءة اللطيف في المساجد، دفاعاً عن الإسلام، وعن وحدة الأمة المغربية التي كانت مستهدفة بشدة، لذلك فإن تأسيس كتلة العمل الوطني سنة 1934، وبعدها الحزب الوطني سنة 1937، لا يمكن فصلهما عن نشأة حزب الاستقلال سنة 1944 والتي كانت استجابة لحاجة مجتمعية ملحة هي الدفاع عن الإنسية المغربية، وعن الشخصية المغربية، في وجه الدولة الكولونيالية. وعندما نعود اليوم إلى هذه الصفحات من تاريخ جهاد الأمة المغربية وعلى رأسها الملكان الراحلان محمد الخامس والحسن الثاني من أجل الحرية والاستقلال، فإنما لتأكيد أن عمل الحركة الوطنية الممتزج بالسلفية المغربية، كان الهدف منه تحقيق الاستقلال وإرساء نظام ديموقراطي، وهو الأمر الذي جسدته بجلاء وثيقة 11 كانون الثاني (يناير) 1944، وهي الوثيقة التي عكست تحولاً جوهرياً في خطاب الحركة الوطنية المغربية من المطالبة بتحقيق مجرد إصلاحات في ظل الحماية، إلى إعمال لبنود عقد الحماية (دفتر مطالب الشعب المغربي سنة 1934 كنموذج)، إلى المطالبة بالاستقلال الكامل في توظيف ذكي للوضعية التي كانت تعرفها فرنسا في تلك الفترة، بخاصة نتائج الحرب العالمية الثانية واندحار فرنسا في عدد من مستعمراتها، وبخاصة في فيتنام.
كانت الحركة الوطنية تسعى أساساً إلى تقويض الدولة الكولونيالية وتحقيق الاستقلال، وبناء نظام ديموقراطي تكون فيه السيادة للأمة، يقوم على العدالة الاجتماعية والحريات وإنصاف الأفراد والمناطق في مغرب موحد واحد ليس فيه مجال لمغرب نافع وآخر غير نافع، واللحظة السياسية الفارقة التي يعيشها المغرب اليوم، تفرض التذكير بهذا التاريخ، لأن الشعوب التي لا تعرف ماضيها تكرر أخطاءها، ولأن مجابهة التحديات الكبرى التي تواجه المغرب تفرض التحلي بمنسوب عال من الوعي التاريخي.
يقول الملك محمد السادس في إحدى خطبه إن “المغرب مستهدف لأنه دولة عريقة تمتد لأكثر من اثني عشر قرناً، فضلاً عن تاريخها الأمازيغي الطويل، وتتولى أمورها ملكية دستورية ومواطنة منذ أزيد من أربعة قرون في ارتباط قوي بين العرش والشعب، والمغرب مستهدف أيضاً لما يتمتع به من نعمة الأمن والاستقرار التي لا تقدر بثمن، وبخاصة في ظل التقلبات التي يعرفها العالم”، هذا الاستهداف الذي يهم المغرب، يفرض عليه جملة من التحديات يرتبط بعضها بتحديات داخلية، تهم القدرة الجماعية على إنتاج خطاب تعبوي جماعي قادر على تمثل روح الاستقلال، وجعلها ممتدة في الحاضر وتلقي بظلالها على المستقبل، وخارجي ليس في النهاية سوى مظهر للتعبئة الجماعية الداخلية، والتي بمقدورها أن تمنح المغرب المكانة التي يستحقها في محيطه الإقليمي والدولي.
إن الأمر في تقديري يستدعي فتح نقاش وطني يهم أربعة محاور رئيسية:
أولاً: كيف يمكن استعادة جو التعبئة الوطنية التي تحققت في مكافحة الاستعمار، لمواجهة التحديات الجديدة التي تواجهها البلاد بهدف الحد من طموحاتها لدخول نادي الدول الصاعدة، وعلاقة ذلك باستمرار الاستثمار في معاكسة الوحدة الترابية للمغرب؟
ثانياً: ما هي التحولات المجتمعية والقيمية التي عرفها المغرب منذ الاستقلال إلى اليوم، بخاصة تلك التي همت سلوك الفرد والمجتمع في علاقته بالتحولات الاقتصادية؟ وما حجم تأثيرها في القدرة على التعبئة الجماعية وتوقعات انخراط الأفراد عبر مختلف الأجيال في هذا الفعل الجماعي؟
ثالثاً: كيف يحضر تأثير العامل الخارجي في ظل شروط النظام الدولي الجديد القائم على تعدد الأقطاب، في قدرة الدول على إحداث التعبئة الداخلية الجماعية حول مشروع وطني جامع في ظل تراجع السرديات التقليدية وتراجع النفس الأيديولوجي في الفعل السياسي والاقتصادي؟
رابعاً: ما أثر الثورة الرقمية في قدرة مؤسسات الوساطة التقليدية على تأطير المجتمع وخلق أجواء التعبئة الوطنية؟ وما الأثر السلبي المتوقع لتراجع مؤسسات الوساطة أمام تنامي نفوذ مواقع التواصل الاجتماعي وصانعي المحتوى؟