رغما عنهم، ساهم عدد من الخونة في تعبيد الطريق نحو استقلال المغرب بتصرفاتهم التي كانت تذكي جذوة المقاومة في نفوس الوطنيين الذين كانوا يحظون بدعم المغاربة كافة وعلى رأسهم أفراد الأسرة السلطانية الذين كانوا على تواصل دائم معهم سواء قبل المنفى أو خلال تواجدهم بكورسيكا وبعدها مدغشقر رغم ضغوطات الإدارة الاستعمارية..
ثورة الملك والشعب التي نحتفل بالذكرى الـ69 الذي يصادف 20 غشت من كل عام، هي أيضا مناسبة نستحضر فيها بعض الفاعلين فيها، وفي هذا المقال نستحضر اثنين من أبطالها الذين كانت لهم مساهمة فعالة في إذكاء جذوة المقاومة في نفوس مختلف الخلايا وكانوا بمثابة نبراس يستنيرون به في طريقهم نحو تحقيق الاستقلال، وهما: علال بن عبدالله الذي حاول طعن دمية الاستعمار محمد بن عرفة في مراكش يوم 11 شتنبر 1953ومحمد الزرقطوني، بطل عملية “السوق المركزي بالدار البيضاء في 24 دجنبر 1953، كما نقدم مسارات اثنين من أبرز الخونة الذين سيذكر التاريخ أنهم كانوا على رأس المتآمرين على عرش المغرب وعلى استقلال المغرب، هما الباشا الكلاوي الذي حشد القياد والبشاوات في مراكش لمبايعة بن عرفة لتولي عرش المغرب، ومحمد بن عرفة العجوز الذي كان يريد أن يصبح ملكا ضدا على إرادة الشعب المغربي.
علال بن عبدالله.. الشهيد الذي تحدى بن عرفة بين زبانيته
حتى نفي جلالة المغفور له محمد الخامس رفقة أسرته من طرف المقيم العام الفرنسي غيوم وإدارته، كان علال بن عبدالله مجرد مواطن بسيط يمتهن الصباغة بمسقط راسه بقيبلة هوارة أولاد رحو بمدينة جرسيف، قبل انتقاله إلى الرباط هربا من استفزازات أحد أعوان الاستعمار المغاربة لسيقر بحي العكاري حيث نسج علاقات متميزة مع التجار هناك.
بعد نفي السلطان واسرته، وفي يوم الجمعة 11 شتنبر 1953 علم أن دمية الاستعمار محمد بن عرفة الذي تم تنصيبه سلطانا على المغرب سيتوجه لأداء الصلاة في مسجد أهل فاس بالمشور السعيد، لينطلق بسيارته مخترقا حراس السلطان المزيف في اتجاه السلطات وبيده سكين ليطعنه به، غير أ، ضابطا اسمه “كويزا لاسورطي” ارتمى عليه معترضا سبيله، وفي نفس اللحظة، أطلقت مجموعة من رجال الشرطة السرية 8 رصاصات على علال بن عبد الله ليسقط شهيدا بعد أن نجح في إصابة بن عرفة الذي تم نقله على وجه السرعة لتلقي العلاج.
بعد استشهاده، ظلت جثة بن عبدالله مرمية في مشور القصر السلطاني بالرباط، وتعالت الأصوات حول مصيرها بين قادة الشرطة والجيش الفرنسي، لكن قائدا من الخونة استدعي لأداء الصلاة مع ابن عرفة تدخل لفض النزاع بين القادة المتخاصمين حول مثوى علال بن عبد الله الأخير، هل سيكون في مقبرة مدنية أم سيعد من المختفين، واقترح أن يقوم بدفنه في قبيلته في قبر سري لا يعرف الجن الأزرق مكانه، واتفق الجميع على الطرح الذي قدمه قائد إحدى قبائل هضبة زعير، وانتهى الموضوع، وظلت الجثة إلى أن عاد السلطان من المنفى في سنة 1955، حيث كان أول أمر أصدره هو الكشف عن جثة علال بن عبد الله، وعرفت قصة ذلك القائد الخائن فجاء طائعا إلى القصر السلطاني بالرباط وتقدم بين يدي السلطان محمد الخامس واعترف بذنبه ثم طلب العفو، لكنه ظل في دائرة “الشوار” وبقي في السجن، وحمل جثمان علال بن عبد الله من حفرته العميقة وأعيد دفنه بطريقة تليق بمقامه، وأقيمت له صلاة الجنازة في مسجد أهل فاس الذي نفذ بجواره العملية الفدائية، ثم حمل جثمانه ليدفن بمقبرة الشهداء بالرباط كثوري عظيم.
العملية التي قام بها علال بن عبدالله كان لها أثر بالغ في إذكاء جذوة المقاومة ضد الفرنسيين لتتوالى العمليات الفدائية حتى عودة السلطان من المنفى.
خلال السنة الموالية لعودة المغفور له محمد الخامس من المنفى، وبمناسبة الاحتفال بذكرى ثورة السلطان والشعب أشاد بالعمل البطولي لعلال عندما قال: لقد أبينا إلا أن نظهر اليوم عنايتنا بإزاحة الستار عن اللوحة التذكارية المقامة في المكان الذي سقط فيه علال بن عبد الله، ذلك البطل الصنديد الذي برهن على أن العرش منبعث من صميم الشعب المغربي، وأنه من كيانه وضمان وجوده وسيادته، فهب يفتديه ويفتدي الأمة المجسمة فيه بروحه، حتى سقط في ميدان الشرف صريعا، مخلفا للأجيال أعظم الأمثلة على التضحية والغيرة وحسن الوفاء”.
لاحقا، وبعد الاستقلال اغتال المقاوم أحمد أكوليز المعرف بلقب “شيخ العرب” رجل الأمن الذي منع علال بن عبدالله من قتل بن عرفة، وفي 2012 وتكريما له، أطلق امسه على فرقاطة تابعة لأسطول القوات البحرية السلطانية المغربية.
محمد الزرقطوني.. بطل تفجير السوق المركزي
محمد الزرقوطي، بطل عملية “السوق المركزي” التي كانت من أكبر العمليات التي أدخلت الرعب إلى قلوب الفرنسيين في الدار البيضاء، ولد بدرب السوينيية بالمدينة القديمة في الدار البيضاء، عام 1927 وكان الابن الأول لعائلته، تلقى دروسه الأولية في الزاوية الحمدوشية التي كان والده الذي يحمل أيضا اسم محمد مقدما لها، ثم التحق بالمدرسة العبدلاوية لتعلم الحديث.
كان عمره ما بين 15 و16 عاما عندما بدأ وعيه الوطني في التفتح وكان نهما بالقراءة ومتابعة ما يدور حوله تعلى المستوى الوطني والإقليمي والدولي، فضلا عن اهتمامه بالرياضة حيث أسس نادية مولودية بوطويل بالمدينة القديمة.
يوم 24 دجنبر وبعد اشهر قليلة من نفي السلطان محمد الخامس، قام الزرقطوني بتنفيذ عملية تفجير السوق المركزي، كما شارك في عملية نسف قطار الدار البيضاء- الجزائر، وكان يقض مضجع الفرنسيين الذين كانوا يطاردونه دون أن يتمكنوا من الوصول إليه، حتى صباح يوم 18 يونيو 1954، عندما تمكنت الشرطة الفرنسية من الوصول إليه بالاستعانة ببعض الخونة، في منزله الكائن بسيدي معروف بالدارالبيضاء. ولقناعته بمحدودية قدرة الأنسان على تحمل التعذيب، كان يحمل هو ورفاقه المجاهدين حبوب من السم يتناولونها في حالة القبض على أي منهم وذلك حفاظا على تنظيمهم الجهادي السري…وهذا ما فعله عندما قبض عليه حيث تناول حبة سم وعند وصوله لمخفر الشرطة كانت روحه الطاهرة قد التحقت بربها، ليكتب اسمه ضمن قائمة الشهداء الذين ضحوا بالغالي والنفيس من أجل هذا الوطن، حيث أصبح اسم الزرقوطي مخلدا إلى الأبد في ذاكرة المقاومة والبيضاويين على وجه الخصوص من خلال تخصيص أكبر شوارع العاصمة الاقتصادية لتحمل اسمه.
الكلاوي.. الباشا الذي تزعم عملية خلع السلطان
التهامي الكلاوي المزواري، أو أكلاوو كما ينطلق باللغة الأمازيغية عاش ما بين 1878 و1956)، كان باشا على مدينة مراكش وزعيم قبيلة كلاوة بجبال الاطلس الكبير، انتقل من خدمة المخزن والعرش العلوي إلى الخيانة والتمرد والتعاون مع سلطات الحماية الفرنسية، ليكون واحدا من أبرز الداعين إلى خلع السلطان محمد الخامس وتوليه بن عرفة مكانه.
استمد قوته من زعامته القبلية التي جعلته يكتسب قوة التعاون التام مع الفرنسيين، وهو تعاون بوأه منصب الباشا، الذي مكنه من التحكم في رقاب مليون مغربي يقعون ضمن دائرة نفوذه حتى عام 1955.
كان للصعوبات التي واجهتها أسرة الكلاوي، وبخاصة والده محمد أبيبيط في مسعاه للتقرب من المخزن، وفرض سيطرته على عمق وارزازات والاستيلاء على قصبة تاوريرت أثر في تربية وتكوين التهامي منذ بلوغه الرابعة من عمره، حيث أصبح في بداية شبابه يتابع بشغف الشؤون القبلية والمخزنية. وبعد سبع سنوات على ولادته، توفي والده سنة 1886، ليتكفل به شقيقه الأكبر، المدني الكلاوي، الذي عاش معه حياة الترحال، في “الحركات المخزنية”، ليخوض أول معركة حربية لقمع قبيلة ووزكيت وهو ابن خمسة عشر سنة، وبعد ثلاث سنوات شارك في حرب واد تيديلي، وأسر رئيس المتمردين ولد حليمة. كما شارك مع أخيه في عملية تأديب الروكي الطاهر بن سليمان اللاجئ عند الرحامنة. وشارك في عملية قمع عشعاش بالشاوية بأمر من السلطان، وحارب قبيلة تادلة زمالة وابني عامر. وفي سنة 1898 كلف أخوه المدني بعملية تافيلالت وكان التهامي من بين المساعدين، قبل أن يخلف أخاه في منصبه بعد وفاته، لتبدأ رحلة الترقي في مساره في خدمة المخزن، قبل أن ينقلب عليه، خاصة مع بداية عام 1953 عندما أصدر الكلاوي يوم 19 ماي من هذا العام بيانا أعرب فيه عن صداقته وإخلاصه لفرنسا، مؤكدا أنه إما أن تبادر فرنسا بإبعاد محمد الخامس أو أن تستعد هي للرحيل، ليقوم يومين بعد هذا البيان، أي في 21 ماي 1953 بدفع 270 من الباشاوات والقواد لتوقيع عريضة تأييد للكلاوي وما جاء في بيانه الذي كشف خيانته لتخرج فتوى باسم شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي تكفر الكلاوي ومن معه وهي الفتوى التي تبناها 300 عالم من كل أنحاء المغرب، وعززتها يوم 18 يوليوز 1953 فتوى علماء الأزهر ” بكفر الجلاوي ومروقه”.
طوال فترة نفي السلطان واسرته، ظل الكلاوي على موقفه، وساهم في محاربة الوطنيين ومضايقتهم وتنفيذ الإعدامات في كل من يشم فيه رائحة الوفاء للسلطان وأسرته.
مع ظهور تباشير انتصار ثورة الملك والشعب، ورغبة فرنسا في مفاوضة السلطان على العودة مقابل إيقاف المقاومة، بادر الكلاوي إلى الإدلاء بتصريح يوم 22 أكتوبر 1955 يطالب فيه بعودة السلطان فورا إلى عرشه ومبايعته متناسيا أنه كان أول من طالب بإعاده، وما إن حطت طائرة السلطان يوم 17 نونبر بمطار الرباط، وجه برقية إلى السلطان مما جاء فيها: بمناسبة عودة جلالتكم إلى عاصمة ملككم وحلول الذكرى 28 لاعتلاء جلالتكم على عرش أسلافكم المنعمين، وغداة عودة جلالتكم بين رعاياكم الأوفياء يسرني أن أوجه إليكم متمنياتي الحارة والصادقة بالسعادة والنصر المكين، كما أوجه أحر أماني إلى العائلة السلطانية الكريمة وفي مقدمتها صاحب السمو السلطاني ولي العهد الأمير مولاي الحسن، والله تعالى أدعو أن يستعيد المغرب والمغاربة أجمعين وراءكم وتحت قيادتكم الرشيدة السلم والأمان، ويسير قدما نحو الازدهار والاستقلال، في هذه الوحدة المقدسة التي تجسدها جلالتكم والتي تعيد لأمتنا مجدها وعظمتها. وتقبلوا جلالة السلطان أسمى آيات الولاء والإخلاص”.
عندما صدرت لائحة المتعاونيين مع الاستعمار ورد اسم التهامي الكلاوي، وابنيه إبراهيم واحماد، ضمنها، وحكم عليهم بعدم الأهلية الوطنية لمدة 15 سنة مع مصادرة أملاكهم ليموت في العام الموالي ويدفن بضريح أبن سليمان الجزولي بمراكش بحضور وفد حكومي ترأسه الوزير لحسن اليوسي مبعوثا من السلطان، تاركا عند رحيله في قصره بمراكش 100 امرأة ما بين خادمة وجارية وأرملة واحدة هي والدة عبدالصادق الكلاوي (تولي منصب رئيس المجلس الأعلى للحسابات ما بين 1976 و2003)، وعند تنفيذ الحجز على أملاكه عام 1958 كانت ممتلكاته تغكي 11.400 هكتار مسقية، و600 ألف شجرة زيتون وغيرها أعيد جزء كبير منها فيما بعد لعائلته، علما أن ابنه الراحل عبدالصادق الكلاوي ألف قبل سنوات كتابا تحت عنوان “أبي الحاج التهامي الكلاوي.. الأوبة” حاول من خلاله تبييض وجه أبيه وإظهاره بمظهر الوطني الذي كان دائما مدافعا عن العرش العلوي.
محمد بن عرفة… العجوز الذي أراد أن يصبح ملكا
محمد بن عرفة هو السلطان الدمية الذي نصبه المقيم العام غيوم على عرش المغرب بعد جريمة نفي السلطان محمد الخامس وعائلته، من مواليد فاس عام 1886 وتوفي في مدينة نيس الفرنسية يوم 17 يوليوز 1976.
كان عمر بن عرفة عندما تم استقدامه من فاس ليتولى العرش 67 عاما، وعندما تم الاتصال به ليتولى العرش وافق بحكم انتمائه للبيت العلوي من جهة أبيه عرفة ابن سيدي محمد بن عبدالرحمن المعروف باسم محمد الرابع، وبالتالي فإن السلطان الحسن الأول كان عمه، ومولاي يوسف والد محمد الخامس كان ابن عمه.
كانت تجمع بن عرفة بالكلاوي علاقة عائلية من جهة والدته للا نفسيه لأنها ابنة عم شقيق التهامي الكلاوي، وهو ما يسفر الدور الذي لعبه في إيصاله إلى العرش عام 1953 ليكون مجرد سلكان دمية لمدة عامين في يد الإقامة العامة، حيث لم يكن يسمع له صوت خاصة بعد محاولة اغتياله من طرف الشهيد علال بن عبدالله يوم 11 شتنبر 1953، ليضطر مع تصاعد المقاومة ضد الاستعمار إلى مغادرة القصر يوم 2 أكتوبر 1955 متوجها إلى طنجة ومغضوبا عليه ومحرم عليه العودة إلى المغرب، وعندما عادت طنجة التي كانت تحت الإدارة الدولية للمغرب غادر إلى نيس الفرنسية حيث وفر له الفرنسيون منزلا لإقامته هو وأسرته، ورغم وفاة محمد الخامس وتولي الحسن الثاني الحكم إلا أن بن عرفة وأولاده ظلوا منبوذين، إذ رفض الملك الراحل الحسن الثاني عودتهم إلى المغرب فعاشوا في غربتهم حتى توفي بن عرفة عن عمر ناهز التسعين عاما في شهر يوليوز 1976 ودفن في فرنسا.