الرباط. جسر بريس / هيئة تحرير
في ظل توتر العلاقات بين المغرب و فرنسا ، بعد مطالبة المملكة الشريفة من الدول الأوروبية بضرورة الخروج من المنطقة الرمادية ، وإعلان دعم واضح لمغربية الصحراء ، وجعل المملكة لقضية الصحراء المنظار الذي تقيم به الشراكات الاقتصادية مع الدول ، أكد الخبير في شؤون المنطقة ، الدكتور أحمد نورالدين في حوار له نشر على جريدة السبيل يوم 1 مارس 2023 م ، إلى أن العلاقات بين الدول بصفة عامة تحكمها المصالح، لذلك فهي لا تتخذ شكل منحى خطي مستقر ، بل هي اقرب الى منحنى جيبي بلغة الرياضيات اي متذبذب فيه صعود وهبوط وفقا لتغير جزئي أو كلي لعوامل جيوسياسية وسياسية او اقتصادية ومالية او أمنية وعسكرية، او تحالفات إقليمية ودولية، او عوامل تخص الجغرافيا البشرية، الخ.
في الحالة المغربية الفرنسية مرت العلاقات بين البلدين بعدة هزات عنيفة خلال السبعة عقود الماضية، وصلت حد سحب السفير الفرنسي من الرباط على عهد الرئيس شارل دوغول بعد اختطاف المهدي بن بركة على سبيل المثال، وبلغ التوتر درجاته القصوى إثر صدور كتاب “صديقنا الملك” في عهد الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران، وووقع تشنج وتعليق لاتفاق التعاون القضائي على إثر استدعاء المدير العام للأمن الوطني من طرف قاضي التحقيق الفرنسي على عهد الرئيس فرانسوا هولند، وهناك حوادث غيرها.
أما بالنسبة لعلاقة ذلك بقضية الصحراء المغربية، فأكيد أنه من حق المغرب مطالبة باريس بتطوير موقفها تجاه الاعتراف الصريح بسيادة المغرب على صحرائه، وذلك انطلاقا من الدور التاريخي الذي لعبته فرنسا كقوة استعمارية في تقسيم وتقاسم اراضي الامبراكورية الشريفة، اي المغرب، مع إسبانيا، وبناء على تورط الجيش الفرنسي في دعم الاحتلال الاسباني في الصحراء المغربية واطالة امده بسبب قصفه جيش التحرير المغربي الذي كان يحاصر الجيش الإسباني في مدينة العيون سنة 1958 في معركة “ايكوفيون” الشهيرة.
وأضاف المتحدث:” من حق المغرب كذلك أن يطالب فرنسا بموقف اكثر وضوحا على ضوء المتغيرات الدولية وفي مقدمتها اعتراف واشنطن بالسيادة المغربيةعلى الصحراء في دجنبر 2020. ومن ناحية أخرى لم يعد مقبولا في المنطق السياسي ان تبقى فرنسا في منزلة بين المنزلتين خاصة وأن الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك صرح مرارا أن الساقية الحمراء ووادي الذهب اقاليم جنوبية للمملكة المغربية، وهو ما دفع الرئيس الجزائري بوتفليقة إلى وصفه “شيراك العلوي” نسبة للعائلة الملكية، كما أن القوات الجوية الفرنسية على عهد الرئيس جسكار ديستان شاركت مع المغرب في قصف ميلشيات جبهة “البوليساريو” الانفصالية، وهو اعتراف عملي ميداني بمغربية الصحراء، ليس مقبولا بعد هذا أن تمسك فرنسا العصا من الوسط !
ولكن يجب أن يأتي الطلب من الجانب المغربي وعلى الخارجية ان تتحلى بالشجاعة السياسية والدبلوماسية للمطالبة بذلك بشكل مباشر خلال المباحثات والاجتماعات وعبر القنوات الرسمية، وحينها سيكون رد فرنسا بنفس الوضوح، وعلى أساس جوابها نبني مواقفنا وخياراتنا وفقا لمصالحنا الوطنية. لا ينبغي أن تتستر الخارجية وراء الصحافة أو خلف الأزمة الصامتة، بل يجب الإفصاح وطرح الملفات على الطاولة. ولا يجب أن ننتظر المبادرة من فرنسا بل يجب ان تكون المبادرة مغربية وبكل ثقة ووضوح وقوة وبناء على حجج ووثائق واتفاقات وخرائط كانت فرنسا شاهدة عليها او طرفا فيها منذ اتفاقية للا مغنية 1845 بينها وبين المملكة المغربية، مرورا باتفاقية تطوان 1860 بين الرباط ومدريد، ومؤتمر برلين 1885 وبرتوكلات 1902 و1904 و1934 بين فرنسا وإسبانيا، ومؤتمر الجزيرة الخضراء 1906، وغيرها من الشواهد التي تؤكد مغربية الصحراء الغربية والشرقية على حد سواء ” .
وفي هذا الصدد ، يعتقد الدكتور أحمد نورالدين، أن تصريح وزيرة الخارجية الفرنسية خلال زيارتها الأخيرة إلى الرباط منتصف دجنبر 2022 والذي قالت فيه أن “بإمكان المغرب الاعتماد على فرنسا في ملف الصحراء..” يعتبر رسالة واضحة وفي نفس الوقت تحمل إشارة مشفرة إلى من يعنيهم الأمر.
و في سياق الحديث عن العداء للمغرب هل هو مرتبط بمرحلة الرئيس ماكرون أم الدولة العميقة هي من تعادي بلدنا ؟ ، أجاب الدكتور أحمد نورالدين قائلا :
” لا اتمنى أن يكون عقل الدولة المغربية يتعاطى مع الأزمة بهذا المنطق اي ربطها بشخص او بفترة انتداب ماكرون، لان هذا المنطق سيدفعنا إلى انتظار نهاية ولاية ماكرون الثانية، وهذا لوحده يعتبر كارثة، لأن الانتخابات الرئاسية المقبلة ستجري سنة 2027، فهل سنجمد علاقاتنا مع شريك استراتيجي طيلة الأربع سنوات التي تفصلنا عن هذا التاريخ؟! لا أظن ذلك حلا، والوقت سلاح ذو حدين، فإذا كان الزمن في بعض الاحيان جزءا من العلاج فهو يساهم في تعفن الجراح في أحيان اخرى .
وفي تقديري المتواضع، اظن ان مشكلتنا ليست مع جهة معينة في فرنسا، عميقة او سطحية، بل المشكلة توجد في المغرب كدولة ونخب سياسية حيث لم يعد لنا اصدقاء كبار من طينة الرئيس جاك شيراك صديق القصر، او الاشتراكي ليونيل جوسبان صديق الاتحاد الاشتراكي وعبد الرحمن اليوسفي بالتحديد، ولا مثقفين من حجم جاك لانغ وميشيل جوبير، والقائمة طويلة، لم تعد لنا قنوات رسمية وحزبية تصنع هذه الصداقات من هذا الوزن الثقيل.
حين يكون هناك 356 صوتا يدين المغرب في قرار البرلمان الاوربي سنة 2022، بغض النظر عن جوهر القرار ومضمونه وعن اتفاقنا او اختلافنا معه فهذ ليس موضوع حديثنا، مقابل 32 صوتا فقط تساند المغرب، فهذا يعني أن المغرب لم يعد له اصدقاء اوربيون ولا فرنسيون، وهذا يعني أن البرلمان المغربي وجمعيات الصداقة البرلمانية والاحزاب السياسية الممثلة في البرلمان بالإضافة إلى وزارة الخارجية، رغم الانجازات والدينامية التي ابانت عنها، لا تقوم بعملها بالاحترافية اللازمة والاستشراف الضروري. وقد تكرر هذا الموقف في يوليو 2021 على خلفية التوتر مع إسبانيا، حيث صوت البرلمان الاوربي على توصية تدين المغرب بحوالي 397 صوتا مقابل حوالي 84 صوتا لصالح المغرب، وهذه التوصية كانت أخطر من الحالية لأنها اعتبرت سبتة مدينة اسبانية. إذن هناك خلل بنيوي لدينا، يجب ان نقر به لنبحث له عن علاج جذري، اما أن نتجاهله ونلقي باللائمة على الآخر فلن يزيد الأمور إلا استفحالا، وهذا أسلوب مريح للطبقة السياسية والدبلوماسية على حد سواء لأنه لا يدفعنا إلى المحاسبة وتحمل المسؤولية عن الاخطاء، ومن ثم التشمير على سواعد الجد والعمل، فلست انا المسؤول بل الآخر اي الأوربي، وانتهى الأمر. بينما النقد الذاتي يدفعنا للتفكير والعمل الجاد لتجاوز البنية التي ولدت الازمة، وليس لتقديم مسكنات للأزمة “.
و أشار المتحدث إلى أن فرنسا مازالت إلى حدود الساعة الشريك الاقتصادي الأول للممكلة، رغم أن إسبانيا تجاوزتها كشريك تجاري، وقد نسجنا معها علاقات استراتيجية مهمة، وقد بدأت بعض ثمارها تظهر على سبيل المثال في تحويل التكنولوجيا الصناعية في عدة مجالات ليست صناعة السيارات والقطارات إلا الجزء الظاهر منها، وموقفها كما اسلفنا سابقا من قضية الصحراء كان داعما للمغرب ومتقدما على كل الدول الاجنبية قبل الاعتراف الامريكي والمراجعة التاريخية للموقف الإسباني، لذلك ليس من الحكمة أن نفرط في كل المكاسب المتراكمة مع حليف قديم لاننا كسبنا حليفا جديدا، الحكمة أن نوسع قائمة الحلفاء بما يحقق مصالحنا الوطنية، وأن ننوع الشركاء الدوليين بما يسمح للمغرب بدخول نادي الدول الصاعدة تكنولوجيا وصناعيا وعلميا وماليا واقتصاديا وحضاريا. اما أن نكسب حليفا في مقابل أن نخسر حليفا آخر فهذا سيجعلنا موضع ابتزاز دائم وارتهان للآخر، وسيخرجنا من دائرة نفوذ لندخل في نفوذ دائرة إخرى. لست هنا بمعرض الدفاع عن هذا الشريك او ذاك، ولست ضد مراجعة علاقاتنا مع هذه الدولة او تلك إذا اقتضتها مصالحنا الوطنية، ولكن المملكة المغربية تعاملت دائما بالحكمة وبعد النظر والنفس الطويل، وإذا كان ولا بد من هذا التحول في علاقاتنا الخارجية، وبالنظر إلى تشابك المصالح مع فرنسا في كل المجالات الاقتصادية والتجارية والامنية والاستراتبجية والثقافية وغيرها، فالأمر يستلزم مخططا يستمر عشرين سنة على الأقل حتى نتفادى الانتكاسات والخسائر التي قد تنعكس على اقتصادنا وعلى توازناتنا الجيوسياسية، والمخطط يجب ان يشمل كل الجوانب سواء لغة التدريس في مناهجنا التعليمية أو لغة تعاملاتنا الادارية او استقطاب الاستثمارات الخارجية التي لازالت تهيمن عليها نفس الدولة، او ابرام اتفاقات التعاون والشراكات او وجهة التصدير والاستيراد التي تهيمن عليها نفس الجهة، او مختلف أوجه التعاون التقني المدني والعسكري وبناء القدرات المرتبطة بتلك الجهة. وكما يقول المثل لا يجب ان “نبصق في الطبق الذي نأكل منه”، وأظن ان اول مؤشر على إرادة تغيير الشريك إذا كنا جادين، هو أن يتوقف كبار المسؤولين والموظفين عن التعامل بلغة اجنبية في اجتماعاتهم ومراسلاتهم وبلاغات وزاراتهمالاعلامية وتصريحاتهم الرسمية، وان يتوقفوا عن الازدحام أمام سفارة وقنصليات ذلك البلد للحصول على تأشيرات تقضي وتسحق كل سنة حوالي مليار دولار من العملة الصعبة لقضاء عطلهم والتسوق من “مولات” ذلك البلد، وعليهم أن يتوقفوا عن إرسال أبنائهم إلى مدارس البعثات التعليمية لذلك البلد، وأخيرا وليس آخرا، وهذه الطامة الكبرى، عليهم أن يتوقفوا عن مخاطبة ابنائهم داخل بيوتهم بلغة اجنبية، لأن هذا السلوك تعبير عن الاستلاب الحضاري المطلق والهزيمة النفسية والثقافية ولا علاقة له بضرورة الانفتاح على العالم وإتقان اللغات الاجنبية الذي يعتبر ضرورة وواجبا.
وختم الدكتور أحمد نورالدين: ” نحن لازلنا في الخطوة الأولى من مشوار الألف ميل لتحقيق استقلالية قرارنا وتحقيق سيادتنا في المجالات الاستراتيجية ومنها السيادة التكنولوجية والصناعية والدوائية والغذائية والطاقية والعسكرية، والثقافية، وعلينا أن نتجنب خلق الاعداء بخفة ومجانية، وعلينا أن نتقدم في حقل الألغام الدولي بخطوات مدروسة ومحسوبة ودون غرور يؤدي إلى الكوارث التي أصابت من قبلنا من الدول في عهد عبد الناصر وصدام والقذافي او كاسترو وتشافيز، وغيرهم كثير. علينا أن نقرأ جيدا ونستفيد مما يجري حولنا من تحولات جيوسياسية كبرى ستغير وجه النظام العالمي بعد حرب أوكرانيا والمناوشات في بحر الصين وعلى الساحة الافريقية وفي المنطقة العربية. علينا أن نعمل كثيرا ونتكلم قليلا حتى لا نصبح مثل الدول الكرتونية من حولنا التي تصف نفسها بأنها قوة إقليمية وهي عاجزة عن توفير الحاجيات الأساسية لمواطنيها”.