“إن مهمتي كملك تجعل مني الخديم الأول للمغاربة. ولا يوجد هناك سببب لكي يتوقف ذلك”. كان هذا جزءا من جواب الملك محمد السادس في حوار أجراه مع مجلة “باري ماتش” الفرنسية سنتين بعد اعتلائه كرسي عرش المملكة المغربية سنة 1999.
ومنذ هذا الحوار الذي أجراه العاهل المغربي سنة 2001، جرت مياه كثيرة تحت جسر حُكم الملك الثالث والعشرين للمغرب من سلالة العلويين الفيلاليين، حيث واجه مُحمد السادس بن الحسن الثاني بِنْ مُحمد بِنْ يوسف العَلوي الكثير من التحديات ودشن العديد من الإنجازات وتجاوز مَطبات مُعقدة في تدبير حُكم دولة، مُحطيها صعب، وشعبها مُثقل بإرث تاريخي وبتنوع ثقافي، مُنصهر في مكوناته، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغني بروافده الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية، كما عكس ذلك دستور المملكة لسنة 2011.
وخلال 24 سنة من حكمه للمملكة المغربية، كان على الملك محمد السادس الذي اعتلى العرش وهو في سن الـ 36 من عمره، أن يتخذ القرارات الصعبة في مسار تدبيره للدولة، وهو ما عبّر عنه في أحد حواراته لمجلة Paris Match الفرنسية بقوله: “دعوني أؤكد لكم أنني أبذل يوميا كل ما في وسعي من أجل وطني”. وهكذا، كان على العاهل المغربي أن يجعل من مواجهة التحديات أسلوب حياة، فقرّر توجيه جهود سنواته الأولى في الحكم نحو محاربة الفقر والهشاشة الاجتماعية وفتح المشاريع الكبرى ورسم معالم مستقبل بلد منهك اقتصاديا، ومُحاط بجوار إقليمي صعب في شمال حدوده، ومُثقل بالعُقد التاريخية في شرقها.
ومن أجل انتشال البلاد من خطر “السكتة القلبية”، أكد الملك محمد السادس أنه لن يحكم البلاد من العاصمة الرباط، بل “سيجعل فترة حكمه على صهوة جواده”، حينما أكد في ذات الحوار بالقول: “أتذكر عندما كنت صغيرا أن والديْ لم يقضيا بالرباط خلال إحدى السنوات سوى 18 يوما من أصل 365 يوما. لقد كان والدي (الحسن الثاني) رحمه الله يقول دائما إن عرش العلويين على صهوات جيادهم، وأنا لا أنوي التخلي عن هذا التقليد”. وعلى هذا النهج، زار الملك العديد من مناطق المملكة المهمشة، واطلع على “المغرب غير النافع” الذي كان المواطنون فيه “خارج التاريخ”، وعرف عن قرب ما سيواجه حكمه من تحديات اجتماعية وما يَتطلبه من مجهود لتقليص الفوارق الذي اتسعت بين المجتمع الواحد، وأصبحت قنبلة زمنية يمكن أن تنفجر في أي لحظة.
ومن أجل تغيير هذا الواقع، فتح الملك أوراشا كبرى، ودشن مشاريع ضخمة، وأطلق خططا للتنمية البشرية من خلال “مؤسسة محمد الخامس للتضامن”، وأسس لنماذج اقتصادية جديدة من خلال المناطق الصناعية الحرة وجلب الاستثمارات في صناعة السيارات، والطائرات، وتقوية البنية التحتية، وتشبيك النموذج التنموي للمملكة مع متطلبات السوق الدولي، وتنويع في البرامج الجالبة لرؤوس الأموال، ما جعل الناتج الداخلي الخام الوطني يتضاعف بين سنتي 2000 و2019 ليتجاوز 1000 مليار درهم.
دوليا، رتب الملك محمد السادس، بهدوء، لتغيرات جوهرية في السياسة الخارجية للبلاد، انطلقت مع تداعيات أزمة جزيرة “ليلى” سنة 2002 التي كادت تُدخل المغرب في مواجهة عسكرية مع إسبانيا، حيث عمل الملك بعد هذه الأزمة على تقوية الديبلوماسية الأمنية مع الدول، وترسيخ الندية في الدفاع على المصالح الوطنية، ودعم تسليح القوات المسلحة الملكية، وتغليب لغة المصالح والوضوح في اختيار الحلفاء، ودعم الاستثمارات الخارجية، كديبلوماسية اقتصادية، وكلها عوامل من بين أخرى جعلت المملكة اليوم، تحقق الكثير من التطور في محيطها الإقليمي والدولي، وتدعم أوراقها للدفاع عن مصالحها القومية.
ومع كل ذلك، مازالت البلاد تحتاج لجهود مضاعفة مع تطور التحديات الاجتماعية والاقتصادية وتعقد الوضع الدولي والإقليمي. فأرقام الفقر مخيفة، والهشاشة تأكل طبقات فقيرة تفوق 15% من الساكنة، و5% من السكان يستحوذون على 40% من الناتج الداخلي الخام للمملكة، ومازالت الفوراق بين الجهات مرعبة، حيث ثلاث جهات فقط من بين 12 جهة تنتج ثلثي الثروات الإجمالية المنتجة في البلاد. كما أن مؤشرات الفساد الفاحش في البلاد مقلقة حسب منظمة الشفافية الدولية، بعد أن احتلت المملكة المركز 94 بـ 38 نقطة من أصل 100، وهي عوامل من بين أخرى تنهش مستقبل أجيال بكاملها لصالح طبقة تتغذى على “ريع الدولة”.
غير أن الملف الذي يفترس مستقبل المملكة، يبقى هو ملف التعليم، الذي أولاه الملك محمد السادس الكثير من العناية منذ أول خطاب العرش سنة 1999 حينما اعتبر أن ملف التربية والتكوين يعد “ثاني أسبقية وطنية بعد الوحدة الترابية”، ومنذ ذاك الحين خصص العاهل المغربي ملايير الدراهم، والعديد من البرامج لتطوير التعليم في البلاد وإيجاد الوصفة القادرة على تطوير الفرد المغربي، لمواجهة التحديات التنموية للأجيال، وبناء دولة حديثة من خلال تعليم نافع، لأن كلفة الجهل باهضة.
وبالرغم من وجود الإرادة السياسية لأعلى سلطة في البلاد، بقي ملف التعليم متعثرا، ونقطة سوداء في تأهيل الرأسمال البشري، بعد الفشل العميق في إصلاح المدرسة المغربية طيلة عقود من تجريب البرامج الفوضوية، وهو ما أفرز أرقاما مرعبة، حيث أن عدد المنقطيعن عن الدراسة بالمغرب، انتقل من 331 ألف و558 منقطعا في الموسم 2019-2020، إلى 334 ألف و664 برسم الموسم الدراسي 2022/2021، وهذا رقم مخيف ومؤلم لبناء مستقبل دولة حديثة.
كان الملك محمد السادس يراهن على نهضة تنموية واقتصادية واجتماعية للبلاد من خلال التعليم، وهو ما عكسته رسالته بتاريخ 12 شتنبر سنة 2000 بمناسبة انطلاق الموسم الدراسي الجديد حينما أكد بالقول: “فلنعمل جميعا بروح المواطنة الصادقة، وبكل ما أوتينا من يقظة وحزم ومثابرة وطول نفس طيلة هذه العشرية في أفق تشييد مدرسة عصرية يسهم فيها الجميع من أجل مغرب الجميع، لأنه على أساس البناء المحكم والمتكامل لدعائم مدرستنا الجديدة وعلى أساس نجاعة أدائها لوظائفها وجدوة عطائها والتقويم المستمر لمردوديتها ونتائجها يتوقف نجاح المغرب المستمر في تحقيق تنميته الاقتصادية والاجتماعية المستديمة”.
لكن مع كل هذه الرغبة الملكية، هناك من “افترس هذا الحلم”، في بناء دولة قوية من خلال الاستثمار في مواطن متعلم، واعٍ، وقادر على الانتاج والابتكار والابداع، وهي الرغبة التي مازال العاهل المغربي يطاردها لتتحقق، من خلال رفع ميزانية التعليم لسنة 2023 بـ 6,5 مليار درهم مقارنة بسنة 2022 لتبلغ غلافا ماليا يقدر بـ 68,95 مليار درهم، لأن الاستثمار في الوعي أفضل من كلفة الجهل بالنسبة لمستقبل الدولة، وهو ما عبر عنه الملك ذات يوم بالقول: “لقد قلت دائما بأنه ليس لدي طموحات شخصية، لكن لدي طموحات عظام بالنسبة للمغرب”. وهو الطموح الذي يبدو أن الملك عازم على تحقيقه، وأكده في خطاب العرش لسنة حينما قال: “فكلما كانت الجدية حافزنا، كلما نجحنا في تجاوز الصعوبات، ورفع التحديات”.