لطالما أكدت المملكة المغربية، على لسان الملك محمد السادس، أن قضية الصحراء المغربية هي المنظار الذي تقيس به الرباط صدق الصداقات ونجاعة الشراكات مع الدول، داعية شركاءها التقليديين والجدد إلى الخروج من منطقة الظل وتسجيل مواقف واضحة وصريحة حول قضية وحدتها الترابية، ذلك أن المغرب لم يعد يقبل الاصطفاف في المناطق الرمادية أو المواقف التي تقبل التأويل والتعديل.
دعوة المغرب سرعان ما التقطتها مجموعة من الدول، آخرها إسرائيل التي اعترفت رسميا بمغربية الصحراء بعد أكثر من سنتين على توقيع الاتفاق الثلاثي، الذي ضم الرباط وتل أبيب إلى جانب واشنطن، فيما لا تزال مواقف بعض الدول حبيسة التصورات التقليدية البعيدة عن الواقعية السياسية، في الوقت الذي عبرت دول أخرى تدعم الانفصاليين عن رغبتها في تحقيق تقارب مع المغرب، على غرار إيران، وسط تساؤلات عن مدى جدية هذه الرغبة الإيرانية ومدى استعداد طهران لقبول شروط الرباط في هذا الصدد.
عباس الوردي، أستاذ القانون الدولي بجامعة محمد الخامس بالرباط، قال إن “الرباط لا يمكن أن تقبل تطبيع علاقاتها مع طهران في ظل موقفها من قضية الصحراء المغربية، إضافة إلى تجنيدها مسلحي البوليساريو ومساهمتها في تأجيج الصراع المرتبط بهذا الملف”، لافتا إلى أن “هناك مجموعة من الشروط التي يجب أن تسبق هذا التطبيع”.
وأضاف أن “المغرب تربطه علاقات بمجموعة من حلفائه الاستراتيجيين، الذين لهم مواقف مباشرة من المحاولات الإيرانية لتأجيج الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث أصبح التوجه الإيراني بارزا على مستوى المنصة الإفريقية من خلال تمويل مجموعة من التنظيمات الإرهابية”، مبرزا أن “الرباط لم تقطع علاقاتها مع طهران إلا بناء على جملة من المؤشرات، أبرزها محاولة تمدد التشيع الإيراني في المغرب واستهداف مصالح المملكة”.
وأوضح الأستاذ الجامعي أنه “لا يوجد أي مانع يمكن أن يمنع السياسة الخارجية المغربية من التعاون وتطوير العلاقات الدبلوماسية مع الدول التي تحترم اختياراته ولها وضع متقدم تجاه شركاء الرباط الإقليميين والدوليين”، مضيفا أن “طهران يجب أن تصفي أولا الأجواء مع المغرب على غرار ما فعلته مع دول الخليج، وعلى رأسها الإمارات والسعودية”.
“المغرب لم يعارض يوما أن تنوع إيران علاقاتها، سواء مع الجزائر أو غيرها من الدول، لكن ليس على حساب مصالحه الحيوية، وأبرزها مسألة وحدته الترابية”، يسجل الوردي، الذي تابع قائلا: “لم يثبت يوما أن المغرب حاول ضرب مصالح طهران. كما أن الرباط ترحب دائما بعودة العلاقات مع إيران، وقد كان ذلك بارزا من خلال مجموعة من المحطات التي تكللت بالفشل بسبب التوجه الإيراني الذي لم يتغير”.
وأكد الوردي أن “إثبات حسن النية تجاه المغرب هو الأساس الذي يجب أن تعتمد عليه إيران، وأن تقطع مع الكيان الانفصالي، وتتوجه إلى الاعتراف بمغربية الصحراء، باعتباره التوجه الذي تريد الرباط من جميع المتعاملين معها، الحاليين والمستقبليين، أن يتخذوه، وبالتالي الرجوع إلى الوضع السليم للعلاقات الدبلوماسية التي تقوم على احترام الشرعية الدولية وسيادة الدول”.
من جهته، أوضح صبري عبد النبي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن “الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب كان واضحا من خلال تحديد المسار الذي يجب أن تأخذه أي دولة تريد تحقيق تقارب مع المغرب، وهو الاعتراف بسيادته على أقاليمه الجنوبية”، مضيفا أن “عددا من الدول التقطت هذه الإشارة وعبرت عن موقفها من قضية الصحراء المغربية، فيما لا تزال بعض الدول مترددة في هذا الشأن”.
وأشار أستاذ العلاقات الدولية، في تصريح صحفي، إلى أن “إيران كانت تراهن على التغلغل في شمال إفريقيا منذ القرن الماضي، غير أنها لم تفلح أمام وقوف المغرب سدا منيعا، مذهبيا وأمنيا، أمام هذه المحاولات، وبالتالي فهمت الرسالة متأخرة وعبرت عن رغبتها في تطبيع العلاقات مع الرباط، ذلك أن رهانها على الجزائر والبوليساريو كان خاسرا”.
وخلص إلى أن “المغرب يسعى إلى صيانة وحدته الترابية وتحقيق مصالحه الاستراتيجية في إطار من الموازنة بين هذه المصالح والقيم التي تؤطر تحركاته الدبلوماسية”، مضيفا أن “القادم من الأيام سيكشف بالتأكيد عن مزيد من الاعترافات بمغربية الصحراء. وبالتالي، فأي دولة تريد إقامة شراكات مع المغرب والمضي قدما نحو تحقيق التقدم والازدهار، ما عليها إلا الانخراط في هذه الدينامية”.
من دون أفق
ويقرأ المتخصص في الشأن الإيراني أحمد موسى هذا المستجد بقوله إن التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية الإيراني يأتي في إطار جهود ومساعي طهران الرامية إلى رأب الصدع مع مجموعة من الدول العربية، لا سيما بعد نجاحها في إعادة علاقاتها الدبلوماسية مع السعودية، وتمتين علاقاتها مع الإمارات العربية المتحدة.
واستطرد موسى قائلاً “مثل هذا التصريح الدبلوماسي متوقع جداً من وزير خارجية إيران وهو يستقبل سفراء الدول الإسلامية المعتمدين في بلاده، كما ينسجم مع الدينامية التي شهدها الملف السوري على مستوى الجامعة العربية واستعادة دمشق مقعدها الرسمي فيها، بعد مبادرة قادتها السعودية”.
ورأى أن “هذا التصريح يمكن أن يكون أيضاً رسالة إلى المغرب من أجل استشعار مدى تفاعل الرباط مع إبراز حسن النية هذه، خصوصاً بعد مرور خمس سنوات على قطع العلاقات مع إيران”.
وأوضح أن طهران تدرك تمام الإدراك الأسباب التي أدت إلى قطع المغرب علاقاته الدبلوماسية مع إيران، كما أنها باتت تعرف الرباط في محطات سابقة كثيرة، وتعي تماماً الشروط التي حددتها لعودة العلاقات، وعلى رأسها عدم التدخل في شؤون المغرب الداخلية والنأي بالنفس عن ملف الصحراء المغربية، والكف عن دعم البوليساريو.
ووفق المتحدث فإن إيران تناقض نفسها حين تطمح إلى استئناف المغرب علاقاته معها، وهي التي ما فتئت، في منابرها الإعلامية الرسمية وغير الرسمية، تتهم الرباط بالاستقواء بإسرائيل ونسج علاقات قوية مع “الغدة السرطانية” بحسب وصف طهران.
وخلص موسى إلى أنه “لا أفق يبدو واضحاً لهذا التصريح، ولا تفاعل إيجاباً يمكن أن ينتظر منه بالنسبة إلى مغرب بات يقيم علاقته بالدول الأخرى بمنظار الصحراء المغربية، وينتظر تغيير السياسات والأفعال وليس الإدلاء بالأقوال والتصريحات”، وفق تعبيره.
إيران تستوعب
من جهته قال المتخصص في الشأن المغربي إدريس الكنبوري إنه “منذ استئناف العلاقات بين إيران والسعودية، مارس (آذار) الماضي عبر وساطة الصين، أصبحت طهران تخطب ود العواصم العربية الأخرى التي حصلت معها أزمة سياسية أدت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية ومنها المغرب”.
ونبه الكنبوري إلى أن إيران تسعى إلى الخروج من عزلتها في المحيط العربي، بخاصة في ظل التحولات العالمية الجديدة التي ترتكز على الأحلاف بين روسيا والصين من جهة وأوروبا وأميركا من جهة ثانية، وفي هذا الإطار يمكن فهم وساطة بكين.
واتفق الكنبوري مع موسى بقوله “إيران تفهم شروط المغرب لاستئناف العلاقات، لأن القطيعة حصلت بسبب تدخل طهران في قضية الصحراء، وأي عودة للعلاقات سيترتب عنها إعادة نظر إيران في سياستها في منطقة المغرب العربي بشكل عام وليس تجاه المغرب فقط، باعتبار أن لقضية الصحراء تداعيات إقليمية”.
وتابع “إيران مطالبة بإعادة النظر في سياستها الإقليمية في المنطقة وتحديد سقف علاقاتها مع الجزائر، خصوصاً في ظل الأزمة الحالية بين الجزائر والمغرب”، مضيفاً أنه “إذا كان وزير الخارجية الإيراني أعلن رغبة بلاده في عودة العلاقات في هذا الوقت بالذات، فهذا معناه أن طهران أصبحت تدرك خطأ سياساتها السابقة”.
ولفت الكنبوري إلى نقطة أخرى تتعلق بملف “التشيع المعقد”، لأن إيران لا تزال تتعامل معه بنظرة قديمة، “بينما اليوم نحن أمام تحولات دينية في البلدان السنية، فهناك حرص على ضبط المشهد الديني، والدولة أصبحت تتعامل مع الشأن الديني منذ عقدين من الزمن باعتباره يهم الدولة ومؤسساتها، مما يعني أن أي تدخل فيه يعني صداماً مع الدولة”.
واعتبر محمد العمراني بوخبزة، الأكاديمي المختص في العلاقات الدولية، أن أسباب قطع المغرب علاقته بإيران قائمة على النهج “غير المتوازن” لطهران مع الرباط.
وقال: “إيران لم تكن متوازنة في علاقتها مع المغرب، فلديها مشروعها في تصدير الثورة وفرض نفسها كقوة إقليمية، فضلا عن بحثها عن موقع بين الكبار، لذلك فهي تتمدد في أماكن بعيدة جغرافيا ومهمة استراتيجيا”.
وأوضح أن إيران تدعم البوليساريو عبر حزب الله بشكل “خطير وغير مسبوق”، مشيرا إلى أن هذا الدعم يظهر في “التدريب وتمكين البوليساريو بالأسلحة” .
وفي المقابل، لفت بوخبزة إلى أن المغرب أعطى الإيرانيين “أكثر من فرصة” لكي يراجعوا حساباتهم من أجل بناء علاقات مشتركة مع الرباط.
وتابع: “طالما سعى المغرب إلى التدرج في بناء العلاقة مع إيران، وذلك عبر إقناعها بأن تتحول من دولة داعمة عسكريا ولوجيستيا وسياسيا للبوليساريو، إلى دولة تتبنى الحياد في هذه القضية”.
– الحياد مفتاح حل الأزمة
وشدد بوخبزة على أن تطبيع العلاقات بين الرباط وطهران “لن يتأثر بالتطورات الإقليمية أو التحالفات الجديدة التي تشكلت عقب الحرب الروسية ضد أوكرانيا، رغم ما ينتج عن هذه الخطوة من إعادة تشكيل موازين قوى جديدة في المنطقة”.
بيد أنه أشار إلى أن الخطاب الإيراني الجديد نحو المغرب يظهر إدراك طهران لأهمية اتباع “نهج حيادي” في مسار علاقتها بالمغرب.
وتابع: “عودة العلاقات بين السعودية وإيران غير مرتبطة بإعادة العلاقات بين دولتين لهما خلافات، بل بإعادة تشكل موازين قوى جديدة في المنطقة”.
ونوه إلى أن “دفع إيران لتبني الحياد حيال قضية الصحراء المغربية محطة مهمة للرباط بخصوص بعض الدول على شاكلة إيران”.
وقال إن الرباط “في انتظار إمكانية أن تغير إيران موقفها مستقبلا، واللحاق بالمجتمع الدولي الذي بدأ يدعم مشروع الحكم الذاتي (في إقليم الصحراء)”.
ويعود آخر تصريح للحكومة المغربية حول العلاقات مع إيران إلى مارس الماضي، حين قال المتحدث باسمها مصطفى بايتاس، إن حكومته لم تناقش استئناف العلاقات السعودية الإيرانية، وتأثير ذلك على علاقة طهران بالرباط.
وفي 28 يونيو الماضي، أكد وزير الخارجية الإيراني أن بلاده تؤيد تطبيع وتطوير العلاقات مع كل من مصر والمغرب، مشيرا إلى أن تحسين العلاقات مع الدول المجاورة والمسلمة من أولويات الحكومة الإيرانية.
وقررت إيران والسعودية تطبيع علاقاتهما عقب مباحثات برعاية صينية في العاصمة بكين، وذلك بعد انقطاع دام 7 سنوات.