جسر بريس/ هئية التحرير
نقفل هذا العدد السنوي، ونطوي معه سنة أخرى من حكم الملك محمد السادس. إنها الذكرى الـ 24 للجالس على العرش، وهي كالعادة محطة للحصيلة والتأمل.
لقد عاد الملك إلى نشاطه خلال هذه السنة وسط أمواج من الإشاعات حول صحته، ولما كان الوضع الصحي للحاكم شأنا عاما، فإن المغاربة ظلوا منشغلين بموضوع أججته سهولة الكلام في مواقع التواصل الاجتماعي، وكان بيان الحقيقة من القصر بالفعل وليس بالقول، وانتهت حكايات الاحتضار السوريالية والعمليات الجراحية المختلقة وشبح الموت الذي ظلت تلوكه الصحافة الجزائرية، انتهت بئيسة مضحكة.
يوجد الملك في قلب النظام السياسي المغربي، ودستوريا هو ملك يسود ويحكم، ولذلك تدور كل العقارب على الساعة الملكية مع إعادة توزيع المهام بعد دستور 2011. الملك له ملفات حصرية ومنها السياسة الخارجية، وهذا الموضوع كان محورا أساسيا من محاور الحياة العامة في المملكة. وبالطبع، منذ أكثر من نصف قرن، توجد أمانة صيانة الوحدة الترابية في الصدارة، وهنا سارت الأمور ميدانيا بدون تغييرات تذكر، اللهم إلا تكريس القوة الدفاعية للقوات المسلحة الملكية، وتعزيز الحماية بالجدار، وتطوير السلاح لمواجهة الخصوم. عموما المغرب في صحرائه على الرغم من أن القضية لحد الآن متنازع عليها وهذا ظلم لا تكفي فيه الشكوى ولكن يتطلب رفعه المثابرة والصبر.
لم يخرج المغرب في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر، فحنكة الديبلوماسية الوطنية تجعل حساباتها دقيقة، ولكن، خرج أحد الشخصيات الوازنة وهو محمد صالح التامك ليوجه نقدا لاذعا لواشنطن بخصوص تماطلها في تفعيل اعتراف إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب بمغربية الصحراء، وامتعاضا من تصريحات المسؤولين في إدارة الرئيس جو بايدن التي لا تختلف في توصيفاتها عن تصريحات إدارة لا يوجد الاعتراف في وثائقها الرسمية.
كما أن قضية فتح القنصلية الأمريكية بمدينة الداخلة ظلت حبرا على ورق، وبقيت الأمور واقفة في حياد شاحب تديره الرباط برباطة جأش محسوبة بالمليمتر.
من جهة أخرى، تواصلت الأزمة مع فرنسا التي يُظهر فيها المغرب قوة مواجهة ملموسة دون أن يتحدث عنها بشكل رسمي، ولعل العلاقات مع رئاسة ماكرون تعتبر اليوم هي الأسوأ منذ عقود، ويكمن في هذا الإطار ربط الموضوع في جزء منه بقضية الصحراء أيضا والتوازن في علاقات باريس بين الجزائر العاصمة والرباط وكذا التنافس في الميدان الإفريقي.
هكذا أصبح طابع الديبلوماسية المغربية موسوما بنوع من الخيلاء المشروع، والرأس المرفوع اتجاه قوى عظمى ظلت تعتقد أن المملكة تحسب مواقفها بموازين القوى، فإذا بهم يكتشفون أن الحساب الوحيد هو قوة الدولة والحضارة المغربية التي تترجم إلى الندية المتوازنة.
وإذا كانت هذه الندية قد شملت مختلف المناطق والمواضيع، ومنها الاتحاد الأوربي والموقف من الحرب الروسية الأوكرانية وفرنسا وأمريكا وألمانيا وغير هذا كثير، فإنها أعطت نتائج جيدة خصوصا مع الجار الشمالي الذي كانت لدى رئيس وزرائه الاشتراكي الشاب الجرأة ليقدم على خطوة غير مسبوقة، ويعتبر الحكم الذاتي المقترح من طرف المغرب هو الحل الأساس لقضية الصحراء التي يعرف سانشيز أن بلاده لها وضع خاص فيها، بما أنها كانت هي القوة المستعمرة لها ومسؤولة تاريخيا عما تعرفه من تطورات.
وإذا كان الاتفاق الثلاثي المغربي الأمريكي الإسرائيلي قد صيغ بشكل محكم جعله مختلفا عن كل اتفاقيات أبراهام الموقعة مع دول عربية أخرى، فإنه بدوره أنتج أياما قبل عيد الجلوس اعترافا إسرائيليا ثمينا بمغربية الصحراء، وحتى لو جاء هذا الاعتراف من طرف حكومة متطرفة لها مشاكل داخلية عويصة وعنوانها لا يسر الناظرين من خلال اسم نتنياهو، فإن رسالة ملكية توضيحية أعادت الأمور إلى نصابها وربطت بين هذا الاعتراف المقترن بدولة وليس بحكومة زائلة، وبين الثابت المغربي الذي لا يتزحزح، وهو ارتباط المملكة الشريفة بالقضية الفلسطينية ارتباطا عضويا، والتواجد في الصفوف الأمامية للدفاع عن حل دولتين كاملتي السيادة لإنهاء هذا النزاع بين احتلال إسرائيلي وحلم استقلال فلسطيني.
لم يَعلُ على هذا الملف الخارجي الحساس الذي ما تزال الجزائر تصعد فيه بشكل رهيب إلا ملف المشاركة المغربية في مونديال قطر، فلأول مرة في التاريخ يصل منتخب عربي إلى نصف النهاية. وتحول «وليدات» المدرب الركراكي إلى أسطورة لفتت أنظار العالم، وأحيت النخوة الوطنية الكامنة في المغاربة الذين عاشوا ملحمة غير مسبوقة. لقد كان الحدث هو تنظيم كأس العالم لأول مرة من طرف دولة عربية، فإذا بالحدث يصبح هو المنتخب المغربي الذي قيل فيه عن حق: لقد ربحت الأرجنتين كأس العالم في كرة القدم وربح المغرب مونديال قطر. وهكذا تعددت إنجازات الكرة المغربية واستخلصت الدروس وعلى رأسها أن الله أعطانا فرصة ذهبية لنبني داخليا مشاتل الأبطال والعبرة بما سنراه في المستقبل.
لقد دبّرت الحكومة تداعيات التضخم القاسي بالكثير من الارتجالية وأصبح الغلاء لمدة شهور نارا تكوي الضعفاء، واشتعلت أثمنة المحروقات بشكل غير مفهوم، ولم تتدخل الحكومة بأي إجراء رغم أن دولا كثيرة عبر العالم تدخلت.
وزادت الحسرة كون رئيس الحكومة نفسه مستثمر كبير في المحروقات، وعزا الجهاز التنفيذي كل هذا الأمر إلى العوامل الخارجية في نوع من التواكل المثير للتعجب. وباستثناء مشروع الحماية الاجتماعية الذي يسير بنوع من التعثر، فإن الحال ظل يغني عن السؤال في المجال الاجتماعي، حتى أن الوزير السابق المكلف بالشؤون العامة لحسن الداودي قال في أبريل الماضي: «إننا نعيش أجواء حرب ونقترب من شبح المجاعة في بعض المناطق».
لقد استمر الإجماع على أن الحكومة ولدت بمشكل عميق في الكاستينغ، وأن تعديلا حكوميا يعتبر ضرورة لتفادي الأسوأ، ولكن لحد الآن تظل دار لقمان على حالها مع تفجر ملفات مثيرة بسوء التقدير أو التدبير، ومنها مشاريع القوانين المتعلقة بالحريات الفردية والعامة، وقانون مجلس المنافسة وتدخل هذا الأخير المحتشم في ملف المحروقات، واستمرار ضبابية نتائج المخطط الأخضر وبعده الجيل الأخضر، والعجز عن الحد من الفوارق الظالمة، والتردد في ملفات محاربة الفساد، وتقديم مشاريع سوريالية من مثل اللجنة المؤقتة المتعلقة بالصحافة والنشر التي ستعوض المجلس الوطني للصحافة بدل إجراء انتخابات بسيطة لتحديد هياكله، والفشل في تدبير شؤون المحامين والصيادلة وغيرهم، وهذا غيظ من فيض، والبقية تأتي.
رغم كل هذا التراكم الذي تدبره الحكومات المتعاقبة، فإن الحكم في المغرب ثابت له أركان أكبر من الجهاز التنفيذي، والركن الأقوى هو الاستقرار والحفاظ على الوحدة الترابية، وفي كل سنة يتشوق المغاربة لقطف ثمار تنمية منتظرة لينعموا بالرخاء والكرامة والحرية، وهذا هو حلم الأجيال. ودامت الصحة والعافية لجلالة الملك.