بحُزنٍ بالغ؛ تذكرت مالكة مقهى ريك في العاصمة الاقتصادية للمغرب الدار البيضاء (كازابلانكا) ليلة الانتخابات التي تُوّج فيها دونالد ترامب بالنصر في أميركا، ذلك النصر الذي حول ليلة العرس الديمقراطي إلى حزن للحاضرين من المغاربة، الذين عبروا عن ذعرهم من فوز المرشح الجمهوري الذي دعا لحظر المسلمين بأعلى منصبٍ رسميٍ في أميركا.
وقالت الأميركية كاثي كريغر (70 عاماً)، الدبلوماسية السابقة ومالكة المقهى الحالية في العاصمة التجارية المغربية: “المغاربة يشعرون بالقلق مما يعنيه فوز ترامب بالنسبة لهم، حيث يسود شعورٌ عام بالاشمئزاز من تصريحات ترامب وعدائه العلني.
ومنذ فوزه بالانتخابات، ينتاب الجميع نوعٌ من الصدمة والخوف من الحديث علناً عن ما يعنيه فوز ترامب. وعلى النقيض، يحاولون التماسك والتصرف ببراغماتية من حيث عدم توجيه الإساءة علناً للناس” حسب تقرير لصحيفة ديلي بيست الأميركية.
وتبدو كاثي بمظهر المغتربة التي وجدت غايتها في المغرب وقررت الإقامة هناك للأبد، فهي جَدَّةٌ مليئة بالحيوية ذات شعر مجعد ونظارةٍ خماسية الأضلاع، ترتدي حلقاً مغربيا من الخرز وبلوزةً مطرزةً تقليدية.
وينعكس استياء كاثي من انتصار ترامب السياسي على العديد من المسؤولين والفنانين وصناع الرأي المغاربة في مقابلاتهم، والذين عبروا عن قلقهم من أن انتصار ترامب سيعني صعوبة زيارة أبناء الطبقة المتعلمة ومتعددة اللغات في المغرب لأميركا، ناهيك عن تصاعد الاضطرابات والعداء ضدها داخلياً إذا ما تعاونت مع البيت الأبيض الذي يُنظر إليه باعتباره معادياً للإسلام تحت قيادة ترامب.
وزادت تصريحات ترامب الأخيرة من تعقيد الأمور بعد أن وصف الهجوم الأخير بالشاحنة في ألمانيا بأنه هجومٌ على المسيحية.
يفضلون كلينتون
المسؤولون المغاربة كانوا على علمٍ بما يُفترض أن يتوقعوه من الإدارة الأميركية تحت حكم هيلاري كلينتون.
فالرئيس بيل كلينتون سبق وأن دعا الملك محمد السادس بن الحسن ملك المغرب، كما قامت هيلاري كلينتون بزيارة المغرب كوزيرةٍ للخارجية. وقضت هيلاري بعض الوقت في البلاد بعد نهاية فترتي زوجها الرئاسيتين، حيث قامت بزيارة القلاع والجبال والصحاري الأثرية المغربية.
كما لاحقتها المغرب خلال حملتها الانتخابية بعد أن أظهرت تسريبات رسائل البريد الإلكتروني لهيلاري قيام العائلة المالكة المغربية بتقديم الدعم لمؤسسة كلينتون والمؤتمر الباذخ الذي أُقيم هناك مؤخراً.
وفي فترة إدارتي بوش وأوباما، تزايد حجم التعاون بين البلدين وخاصةً على مستوى مكافحة الإرهاب، رغم توجيه المسؤولين المغاربة اللوم لأميركا على تأخرها في الإعتراف بانتشار تنظيم القاعدة في شمال أفريقيا. والآن؛ تعتبر المغرب مثالاً في استهداف الإرهابيين وتوعية الشعب كجزءٍ من معركة القضاء على التشدد. بالإضافة إلى استغلال “جامعة القرويين” مركز التعليم الإسلامي الشهير في البلاد (الذي أسسته امرأة)، في تدريب وإعادة تأهيل جيلٍ جديدٍ من رجال الدين ذوي الفكر المعاصر.
وتُعتبر المغرب واحدةً من البلدان العربية القليلة التي خرجت من الربيع العربي سالمةً دون أية أضرار، بعد أن استجابت السلطة للتظاهرات ونفذت إصلاحاتٍ دستوريةٍ عززت من سلطات المسؤولين المنتخبين وأقرت المساواة بين الجنسين، وهو ما جعل الشعب يشعر بأن هناك من يستمع إلى مطالبه.
لماذا يفضّل البعض ترامب؟
في المقابل، صرح مسؤولون مغاربة بأنهم يفضلون إدارة ترامب الجديدة ذات لهجة الخطاب القوية ضد إيران، أكثر من إدارة أوباما التي تميل للتفاوض والصفقات، حيث ترى الملكية الدستورية السنية أن طهران منخرطةٌ أكثر من اللازمة في مغامرة الصراع على السلطة الجارية نيابةً عن الطائفة الشيعية في سوريا والعراق واليمن.
ولكن لا شك أن المغاربة كانوا ليشعروا بارتياحٍ أكبر تحت إدارة الأميركيين الذين يعرفونهم عن قرب، بيل وهيلاري كلينتون.
فهم بالتأكيد يفضلون خطاب هيلاري المحدد الذي انتقى وصف “الإسلام المتشدد”، بدلاً من خطاب ترامب ومايكل فلين (مستشار الأمن القومي الأميركي) اللذين ربطا بين التشدد والمعتقد الإسلامي بأكمله.
ونشر فلين في تغريدته المسيئة على الشبكة الاجتماعية تويتر: “الخوف من المسلمين أمرٌ منطقي”، مدرجةً مع رابط فيديو يضم عدداً من الأعمال الإرهابية، في إشارةٍ إلى أن منفذي جميع هذه الهجمات هم بالضرورة مسلمين.
وفي كتابه “ساحة القتال” يخلط فلين بين وصف الإسلام وأوصاف التوجهات المسلحة الأكثر تشدداً، بشكلٍ يجعل الوصفين مترادفين في أغلب الأحيان.
قصة المقهى
كانت هذه هي الأجواء التي دفعت كاثي مالكة مقهى ريك لافتتاح مطعمٍ مستوحى من فيلم “كازابلانكا” الكلاسيكي الذي تدور أحداثه في حقبة الحرب العالمية الثانية. كما عبّرت علناً عن مشاعر النخبة المغربية، الذين اعتادوا التعبير عنها في الخفاء فقط.
حدث هذا مباشرة بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن؛ حيث شعرت كاثي بالقلق الغريزي إزاء رد فعلٍ عنيفٍ ضد العالم الإسلامي –مثل رسم المنطقة بالكامل في صورة “العدو”.
وصرحت قائلة: “رأيت أن ذلك هو الوقت المناسب لتشييد مقهى ريك، لأنني شعرت أنه سيضيف شيئاً لكلا الطرفين، حيث سيظهر المقهى عدم صدق توقعات المصابين بالرهاب من هذا الجزء من العالم. كما أنه سيحمس المزيد من الناس على زيارة المغرب ويشعرهم بالفخر بأن شخصاً أميركياً مثلهم تمكن من بناء شيءٍ في هذه البلاد. وبالنسبة للمغاربة والزوار العرب، فقد أردت أمنحهم أملاً وأغير انطباعهم المسبق عن أميركا”.
وتأمل كاثي في أن يكون المقهى سفيراً لحسن الضيافة الأميركية بين المغاربة الغاضبين مما تراه رد فعلٍ أميركيٍ مبالغٍ فيه على مهاجمة الإرهابيين لبلادهم. وأضافت أن نظريتها قد أثبتت صحتها بعد الغزو الأميركي للعراق -وهو التصرف الذي يرى الكثيرين في العالم العربي أنه غير مبرر بعد الغزو الأميركي لأفغانستان والذي يُعتبر أكثر منطقيةً نظراً لإيواء حركة طالبان لتنظيم القاعدة وقتها.
وصلت إلى المغرب للمرة الأولى عام 1998، في بعثةٍ لأربعة أعوامٍ كمبعوثةٍ تجاريةٍ تعمل خارج القنصلية الأميركية في مدينة الدار البيضاء الصاخبة والمليئة بالأعمال.
لم تتحمل كاثي مغادرة المغرب بعد انتهاء بعثتها الدبلوماسية –ويرجع السبب جزئياً لوقوعها في غرام الشعب المغربي ونسيجهم الثقافي المختلط والذي يجمع بين الثقافات العربية والفرنسية والأمازيغية، والجزء الآخر يرجع لكونها ديمقراطيةً مولودةً في أوريغون ولم تكن لتتحمل عبء العمل الدبلوماسي تحت إدارة بوش المقبلة.
قامت بجمع رأس المال اللازم من أصدقائها الأميركيين، ونجحت بالتعاون مع المسؤولين المحليين المغاربة الذين صادقتهم خلال بعثتها الدبلوماسية؛ في تطوير قصرٍ أثريٍ يعود لحقبة الثلاثينات في مدينة الدار البيضاء القديمة، على مرمى حجرٍ من شاطئ البحر.
بعدها قامت كاثي بدراسة جميع مشاهد فيلم “كازابلانكا” الذي أُنتج عام 1942 بالتعاون مع أحد المصممين الأميركيين أصدقائها؛ ليقوموا بعد ذلك ببناء مقهى مطابق لمقهى “جين جوينت” الذي ظهر في أحداث الفيلم. وهو المشروع الذي تم تشييده بكل الحب كما وصفته كاثي في كتابها “مقهى ريك، أسطورة فيلم التي تحولت إلى حقيقة في كازابلانكا” الذي نُشر عام 2012.
وتحيط أعمدةً تعلوها أقواس بالساحة الداخلية للمقهى التي يلعب فيها عازف البيانو المغربي “عصام” دور “سام” عازف البيانو في الفيلم وصديق همفري بوغارت.
(وكان السطر المخصص لبوغارت في الفيلم هو “اعزف يا سام”.)
وعادةً ما تنضم لعصام فرقة جاز تشاركه عزف الموسيقى التي يتم بثها على الهواء مباشرةً على الشبكة الاجتماعية فيسبوك.
ويزين أحد الجدران بارٌ خشبيٌ صغير، بينما تملأ التوابل كل المساحات المتاحة بالمكان.
كان الغرض من الفيلم الأصلي هو أن يشارك كعاملٍ مساعدٍ في مساعي الحكومة لإقناع الرأي العام الأميركي المنعزل أن يهتم بحالة الفوضى التي تجتاح أوروبا وهروب الجماعات المضطهدة من أمام آلة الحرب النازية التي لا ترحم.
وشرحت كاثي سبب قيام وارنر براذرز بإنتاج الفيلم، قائلةً: “كل الطرق تؤدي إلى مقهى ريك. لقد أتتهم فكرة تصوير فيلم كازابلانكا مباشرةً بعد الهجوم على بيرل هاربور.
وكانت الفكرة هي أن يرسموا قصة الحب على خلفية ما يحدث في أوروبا من خلال المغرب الفرنسية، عن طريق شرحها بمصطلحاتٍ إنسانيةٍ للمشاهدين”.
شرحت كاثي للديلي بيست نظريتها عن سيناريو الفيلم وهي ترتشف الشاي المغربي بالنعناع، بينما يُعاد الفيلم مراراً وتكراراً على شاشة التلفاز في الخلفية ، إذ تصر على عرض الفيلم باستمرار حتى تتمكن الأجيال المغربية الشابة من المشاهدة والتعلم.
اليهود
تقول كاثي: “يُظهر الفيلم اليهود الفارين ومحاربي الحرية وهم يواجهون النازيين”، وقد رسم الفيلم الحرب من خلال إسقاطٍ على شخصياته الواقعين في مثلثٍ غرامي: ريك بلين العاشق الذي تحول إلى إلى مالك حانة (يلعب دوره همفري بوغارت)، والعميلة الثائرة إلسا لوند (تلعب دورها إنغريد برغمان)، وزوجها المناضل فيكتور لازلو (يلعب دوره بول هينيريد).
وتتردد أصداء الحرب البعيدة في السيناريو للعثور على وثائق سفرٍ مسروقة، يمكن لعملاء المقاومة الطيبين أن يستخدموها لاجتياز الأراضي النازية ليسهل ذلك مهمتهم في تعطيل جهود الحرب الألمانية.
تسعى إنغريد وزوجها المناضل للحصول على الوثائق، لكن النازيين في الدار البيضاء أيضاً يسعون لاستعادة الوثائق المفقودة.
يتوجه الجميع إلى مقهى ريك للبحث عن الوثائق، لأن كل الطرق تؤدي إلى مقهى ريك كما ذكرنا سابقاً.
هكذا التقت شخصية إنغريد برغمان بريك (بوغارت)، وهو الرجل الذي واعدته قبل شهورٍ في باريس، دون أن تخبره أنها متزوجةٌ بالفعل من شخصٍ آخر.
لا يمكن إغلاقه
وتقول كاثي إن الشباب المغاربة لم يسبق لهم أن شاهدوا الفيلم أو سمعوا عن وجوده، لكن السياح الأجانب اجتاحوا المكان بمجرد أن فتحت أبوابها.
تعلمت الدرس الخاص بمسؤوليتها عن دور المقهى التاريخي بالطريقة الصعبة، حيث أدركت أنه لا يمكن لـمقهى “جين جوينت” الخاص بها أن يغلق أبوابه بعد أن قرأت تدوينات المسافرين الغاضبين بعباراتٍ مثل “لقد أتيت بالطائرة من أستراليا إلى المغرب، ولكن مقهى ريك كان مغلقاً”؛ والآن يظل المطعم مفتوحاً على مدار أيام الأسبوع السبعة، وتُعزف موسيقى الجاز داخل المكان في معظم الليالي.
وتقضي كاثي لياليها جالسةً على كرسي في آخر البار، تتابع طاقمها المغربي من النوادل ذوي الطرابيش وهم ينسابون بين الطاولات.
وأحياناً تقرر التجول بين الطابقين المكتظين بالزبائن الذين ينقسمون بين الأجانب والسكان المحليين.
مسيحية تشعر بالدفء بين المسلمين
وبالنسبة لكاثي، المسيحية التي اتخذت من بلدٍ إسلاميٍ وطناً لها وتشعر بالأمان والدفء بين موظفيها المغاربة؛ فإن رد فعل الولايات المتحدة تجاه العالم المسلم هو أمرٌ مثيرٌ للحيرة.
وأضافت كاثي: “تماماً مثل فترة ما بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001، حيث يتم وضع جميع المسلمين في كفةٍ واحدة. إذ سيرى الكثير من الأميركيين غير المهتمين بتفاصيل الأخبار، أن جميع الدول الإسلامية متشابهة”.
وتعتقد كاثي أن تجارتها ستنجو رغم أي تصريحاتٍ أو سياساتٍ مستقبلية معادية للمسلمين من الإدارة القادمة: “الناس يعرفون موقفي جيداً، ويعلمون أنني لست مسؤولةً عن ترامب”.
لكنها تقول إن أصدقائها الذين اعتادوا السفر إلى أميركا قلقون من عدم قدرتهم على الحصول على التأشيرة مستقبلاً، أو تعرضهم للاعتداء خلال زيارتهم لكونهم مسلمين.
وعلقت كاثي قائلةً: “هم يشعرون بالقلق إزاء ردود الأفعال داخل الولايات المتحدة –والطريقة التي سيعاملون بها- لأنهم يعرفون أن حجم جرائم الكراهية ضد المسلمين أصبح في ازدياد”.
ماذا تفعل بأنصار ترامب؟
وفي أمسيةٍ قريبة، أثناء تجولها بين الطاولات؛ التقت لأول مرة بأحد مؤيدي ترامب، حيث اقترب رجل أعمال أميركي من كرسي كاثي ليقدم الشكر للطاهي على وجبة ضلوع الحمل بالكسكس الشهي والجن مارتيني الرائع. سألته من أي مدينةٍ هو، فأجاب أنه من واشنطن العاصمة.
وكونها لم تلتقِ قبلاً بأحد مؤيدي ترامب في دوائرها الاجتماعية المكونة من الأميركيين المغتربين والمغاربة ومؤيدي هيلاري كلينتون في أرض الوطن على الفيسبوك؛ فقد أقامت فرضيةً أثبتت خطأها. فسألته: “كيف هو الوضع في واشنطن وسط كل الأحداث الجارية؟”.
ومن الواضح أن السؤال لم يعجب الزبون.
أضافت كاثي: “بدأ في التذمر بشدة من إدارة أوباما قائلاً أن الوضع لن يكون أسوأ من الثماني سنوات المنقضية، فأوباما أسوأ من جيمي كارتر. لكن الأعمال ستزدهر تحت قيادة ترامب”.
وأردفت: “كان ردي هو أن المناقشة قد انتهت”، في محاولةٍ لإسكاته، موضحةً في عباراتٍ واضحة أنه يتعين عليه مغادرة المكان فوراً.
وأكثر ما ضايقها في الأمر هو أنها اضطرت أن تشرح لأصدقائها في العالم العربي من جديد أن الأميركيين لا يكرهونهم، وأن عليهم التعامل مع الزبائن الأميركيين بحب.
لا تجادل
“لقد أسست مقهى ريك كمساحةٍ محايدة يترك الناس مشاكلهم خارجها، فلا نسمح بالانتقاد أو الجدال هنا. بل نفضل مشاركة التطلعات والطموحات، حيث نوفر للزبائن مساحةً يشعرون فيها بالأمان دون التعرض للإهانة”.
وتساءلت: “هل سأقلل محادثاتي مع الزبائن؟ بالطبع لا، لكنني سأتصرف مثل شخصية ريك. فهو يمتلك قلباً كبيراً، لكنه في الوقت نفسه رجلٌ قوي عندما تضطره الظروف لاتخاذ قراراتٍ صعبة”.
وأضافت أن هذا قد يعني طرد أنصار ترامب من المكان.