بقلم المرحوم مصطفى العلوي
في سنة 1869، غادرت بعثة من الصحراء الشرقية في اتجاه تافيلالت بقيادة الشيخ باحسون، وعندما وصلت البعثة إلى دوي منيع، اشتبكت مع فرقة من قطاع الطرق يقودها الضابط الفرنسي، ويمفون، الذي كان متواجدا في دوار أولاد سعيد، حيث جرد الفرنسيون بعثة باحسون من كل ما معها من متاع.
وكتب سكان دوي منيع للسلطان يخبرونه باستيلاء الفرنسيين على المنطقة وتجريدهم لبعثة باحسون من أمتعتها، فعين السلطان فرقة عسكرية بقيادة الضابط ابن عمه، ولد مولاي رشيد، ذهبت لفك الحصار عن باحسون.
وفي سنة 1872، لجأ إلى الصحراء الشرقية ثائران جزائريان كبيران على رأس جيوشهما، التي كانت تحارب الاحتلال الفرنسي للجزائر، وكان الثائران الجزائريان هما بوشوشا، الذي لجأ عند إخوانه المغاربة في تيدكلت، وقدور بن حمزة، الذي استقر في كورارة.
وكان قدور بن حمزة قد خاض معركة كبرى مع الجيش الفرنسي في أم دبديب والمنݣوب، وعجز الفرنسيون عن تتبعه داخل مناطق كورارة، حيث هب المغاربة لحمايته ودعمه، وكان هذا الحادث بداية إصرار الفرنسيين على احتلال الصحراء الشرقية المغربية، للقضاء على خلايا المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر.
بينما بلغ إعجاب سكان توات بالثائر بوشوشا حدا قالوا معه إن بوشوشا الذي غلب جيوش النصارى هو الإمام المهدي المنتظر، فانقض بوشوشا على الفرصة ونسي مبادئه الثورية ضد الاحتلال الفرنسي لبلاده، وأعلن نفسه أميرا على أتباعه في توات.
وعلم السلطان بالخبر، فسارع بإرسال رسالة إلى سكان المنطقة، مؤرخة في سنة 1873، وكلها تأنيب ولوم للسكان على انسياقهم وراء هذا المشعوذ، وبمجرد قراءة رسالة السلطان في المساجد، سارع سكان وركلة إلى اعتقال “الإمام المهدي” بوشوشا، وتكبيله وإرساله إلى تافيلالت.
تلكم كانت الوضعية السياسية والاجتماعية في مناطق الصحراء الشرقية، في تيدكلت وكورارة وتوات وعلى طول واد الساورة، أما مناطق الساقية الحمراء وشنقيط، فقد كانت بعيدة عن المناورات الاستعمارية طوال هذه الفترة كلها، إذ كان الخليفة السلطاني في سمارة الشيخ المؤسس لعائلة ماء العينين، وأمراء الترارزة في شنقيط، ممثلين لسلطة السلطان بعيدين عن كل ضغط، إذ لولا احتلال فرنسا للجزائر ولجوء المعارضين الجزائريين لهذا الاحتلال إلى الجنوب عند المغاربة، لما عرفت مناطق الصحراء الشرقية أي نوع من المشاكل على غرار المناطق الأخرى.
وكانت الحكومة الفرنسية قد كتبت للسلطان محمد عبد الرحمان تخبره بأن بعثة “بوران” في إقليم توات إنما كانت بعثة دراسية، بينما كل الوثائق الممضاة قبل سنة 1880، سواء من طرف الفرنسيين أو الإسبان، كانت تتعامل مع المغرب على أساس أن توات وكورارة وتيدكلت هي مناطق مغربية، كما أن الفرنسيين عندما احتلوا الجزائر أقاموا في حدودهم الجنوبية مركزا عسكريا هو معسكر “الݣولية” بثمن باهظ من القتلى الفرنسيين والشهداء المغاربة من سكان كورارة، الذين لم يكن لهم حول ولا قوة لمواجهة الجيوش الفرنسية التي احتلت طرفا صغيرا من إقليم كورارة بدعوى حماية الحدود، لكنهم توقفوا في “الݣولية”، ومن هنا أخذوا يستعدون للمستقبل عاجزين عن كسب المعارك ضد السكان في تلك المنطقة متجهين إلى فتح الواجهة داخل التراب المغربي وحول القصر الملكي.
وقد نشر بجريدة “الجنوب” المغربية سنة 1964، بحث عن قبائل الغنانمة سكان وادي الساورة أورد نصه فيما يلي:
قبيلة الغنانمة، إحدى القبائل المغربية العريقة، المشهورة بشجاعتها النادرة، وخدمتها للمغرب وملوكه، فقد كانت إحدى القبائل التي تمد الجيش المغربي بشبابها ورجالها، لخدمة المملكة المغربية وحراسة ثغورها، والدفاع عن قلاعها وثغورها.
وهي لذلك كانت تحظى بعناية ملوك المغرب، فكانوا يعتنون بها أشد العناية، ويولون عليها أقدر الرجال خبرة وكفاءة، ويراسلون أهلها ويستدعون وفودها لأخذ رأيهم فيما يهم قصور وادي الساورة.
كان وفد قبيلة الغنانمة من الوفود التي تحظى بالاستدعاءات المولوية للحضور في مواكب الأعياد بالمصلى مع ملوك المغرب، وقد جاء في ص: 158 من كتاب “العز والصولة في معالم نظم الدولة” لمؤرخ الدولة العلوية، العلامة المرحوم مولاي عبد الرحمان بن زيدان العلوي، عند الكلام عن ترتيب الوفود الواردة على حضرة السلطان ما يلي: ((أهل مكناس، سكان وادي مكس، الغنانمة، جروان، بنو مطير… إلخ))، وعلق الشريف بن زيدان على كلمة الغنانمة في حاشية الكتاب بقوله: ((إحدى قبائل الجيش، وهي الآن مستقرة بضواحي مراكش مع قبائل الجيش)).
هذا ما قاله بن زيدان عن الغنانمة، غير أن قوله ((وهي الآن مستقرة بضواحي مراكش)) فيه نظر! اللهم إلا إذا كان البعض من قبيلة الغنانمة قد استقر هناك على إثر تأديب جلالة المغفور له مولاي الحسن الأول لهم، بعد تنكيلهم وقتلهم لوفد من الطوارق وأهل توات، وكان قادما لجلالته بفاس.. فقد أمر – رحمه الله – يومئذباستباحة دمائهم وتأديبهم، واستقدم منهم عددا كبيرا إلى المناطق الداخلية بالمغرب، ولعل الذين أشار إليهم المؤرخ بن زيدان، من أولئك المستقدمين.
ومولاي عبد الرحمان بن زيدان نفسه أورد في كتابه القيم: “أتحاف أعلام الناس”، ظهيرين شريفين لجلالة السلطان مولاي عبد الرحمان، أنعم في أحدهما على رئيس “الزاوية الكرزازية” بجميع أعشار بني عباس وزكواتهم، وفي الأخير، بتوفير واحترام مقدم الزاوية المتقدمة، والجدير بالذكر، أن “الزاوية الكرزازية” و”بني عباس”، التي وقع التبرع بأعشارها وزكواتها، هي نفسها بلاد الغنانمة.
وقد يستدرك ذلك على مؤرخ الدولة العلوية أيضا، وهو الأستاذ عبد الوهاب بن منصور، في ملاحق كتاب: “العز والصولة” في الجزء الأول منه (ص: 381)، وقال المؤرخ بن منصور في نفس الموضوع: ((يكمل التعليق الخامس، المتعلق بقبيلة الغنانمة كالآتي:
هؤلاء الغنانمة عرب أقحاح ومساكنهم الأصيلة، بوادي الساورة من صحراء المغرب، ما بين واحات فجيج وتوات، ومن أشهر قصورهم: بني عباس، وكرزيم، وكرزاز، والقصابي، وهم قبيلة مخزنية من قبائل “الجيش” التي كان سلاطين المغرب يقطعون الأراضي الفلاحية مقابل خدمتها العسكرية، وكانوا يستقدمون أفرادها البالغين الصالحين للجندية، ويجعلون منهم حاميات وعسسا (ادالات) تقيم بالمراسي والقصبات الداخلية، وقد وجد في الخزانة الملكية كناشا قديما يذكر قبائل الصحراء المغربية وقصورها، ويضم مجموعة من الرسائل الملكية الموجهة إلى أهلها في مختلف الشؤون، ما بين عام 1111هـ وعام 1309هـ)).
وهذا رأي الأستاذ بن منصور في تعليق المؤرخ بن زيدان: ((ولست أدري هل الغنانمة المذكورين في متن الكتاب، هم سكان وادي الساورة أو إحدى فرقهم المستقدمة إلى داخلية البلاد، للقيام بالخدمة العسكرية)).
وهذا رأي وجيه، فديار الغنانمة الأصيلة، بوادي الساورة، وليست بضواحي مراكش، ولا شك أن الذي أشار إليهم مولاي عبد الرحمان بن زيدان، هم إحدى فرقهم المستقدمة للخدمة العسكرية أو المستقدمة تأديبا للواقعة المشار إليها سابقا، على إثر اعتدائهم على وفد الطوارق وأهل توات.