عزالدين السريفي ، رئيس التحرير والاعداد
طبيعي أن ينجح الأفراد والمجتمعات في كسب بعض التحديات، ويواجهون الفشل في بعضها الآخر. لكن مقاربة هذا النجاح أو الفشل تختلف بناء على عظم ومصيرية هذه التحديات، وما تتركه من آثار بعيدة المدى في المستقبل. وعليه قيل قديما: “الضربة التي لا تميتني، تزيدني قوة!”. نفس الأمر ينطبق كذلك على حسن إدارة حقب “الرخاء”، التصرف في الموارد، وانتهاز الفرص وبالبناء عليها، خدمة لمستقبل هؤلاء الأفراد والمجتمعات. والمغرب الذي لا يشذ عن هذه القواعد، يشكل حالة فريدة من عدة نواح، لمن يحاول فهمه بعيدا عن البروباغاندا التي تسانده وتؤيده، أو تعانده وتعاديه، سواء في إدارة الفرص أو في مواجهة الأزمات.
وبسبب المكانة الخاصة التي تشغلها المؤسسة الملكية، ورأسها الملك، في وجدان كل مغربي، وفي تفاصيل النظام برمته، وذلك لتجذرها على امتداد تاريخ الملكية الأقدم، القائمة حتى الآن في العالم، لاسيما وأن هذه العائلة المالكة تعتبر ثاني أقدم سلالة حاكمة (بعد اليابانية)؛ نقول، أنه بسبب هذه المكانة، يصعب الفصل الحقيقي بين فهم وتحليل المؤسسة والملكية وقائدها العاهل المغربي، وبين فهم وتحليل المجتمع المغربي وباقي قواه الحية. لذا سنلاحظ التداخل بين ما يطلق عليه “العرش والشعب” ليس فقط في إدارة معركة التحرر من الاستعمار، وإنما في باقي المعارك التنموية والسياسية والاقتصادية بل والرياضية، التي خاضها المغرب عبر تاريخه الممتد.
هذه الحقيقة، وإن بدت ظاهريا دعائية، لكن المدرك لتفاصيل الواقع المغربي، يعلم يقينا مدى استعصاء فهم هذا الواقع في حال تجاهل هذه الحقيقة! خصوصية مغربية تكاد تفتقدها معظم إن لم يكن جميع الدول العربية والإسلامية والأفريقية، التي تعاني مشكلة “مشروعية” تتجلى أهم مظاهرها في الثقة الضعيفة أو المعدومة بين الحاكم والمحكوم!
ولن نركز هنا على نجاح المغرب في إدارة الموارد، وبناء اقتصاد لا يعتمد على النفط (المغرب والأردن ولبنان هي الدول العربية الوحيدة التي لا تتوفر على هذا المورد)، بل وبناء قاعدة صناعية يحسده عليها العدو قبل الصديق، فهي نجاحات مشهودة ومعلومة للقاصي والداني، وربما تتاح فرصة نقاشها في مناسبة أخرى، لكننا سنركز بالمقابل على كارثة الزلزال الأقوى في تاريخ المغرب الحديث، الذي خلف مآس إنسانية واقتصادية عظيمة، وشكل تحديا جبارا للدولة والمجتمع في مختلف المجالات.
في الأزمات العظيمة، يظهر تميز القيادات، التي يشكل حسن فهمها للأولويات مفتاح النجاح، ويجعل المواطنين يلتفون حولها بهمة وتفاؤل، وهو ما حصل في المغرب. لقد شكل تواجد العاهل المغربي الملك محمد السادس في الصفوف الأمامية منذ اللحظات الأولى للزلزال، عنصر ضبط لحسن استجابة الحكومة وأجهزتها، وعنصر اطمئنان للمواطنين. فكأن أمره بتسخير إمكانات الجيش البشرية والتقنية، وهو الأعلم بالطبيعة الجبلية الصعبة للمنطقة المنكوبة، بديلا ناجعا لانتظار الدعم الدولي؛ وتبرعه بالدم، شرارة حفزت تبرع آلاف المغاربة بالدم حتى تجاوز حاجة المستشفيات؛ وزيارته للمرضى المنكوبين في المستشفيات، تدشينا لجسر التواصل البشري بين المغاربة في مختلف جهات الوطن؛ وإعلانه عن تأسيس صندوق لدعم التعافي من الجائحة، كلمة السر في إطلاق الطاقات التضامنية العظيمة التي تختزنها جينات هذا الشعب، فكانت الصور التي أبهرت العالم، للقوافل التضامنية التي لم تستثن منطقة منكوبة مهما بلغت صعوبة الوصول إليها.
لقد شكل المواطنون المغاربة ظهيرا لجهود حكومتهم، بينما جرت العادة العربية والأفريقية، نتيجة ضعف أو انعدام الثقة بين الجانبين، إلى أن تشيع بين المواطنين ثقافة: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون!!
وبالانتقال إلى مواجهة التداعيات الأبعد أثرا للكارثة، ونقصد عملية إعادة الإعمار، فقد بدا جليا وضوح الأولويات لدى القيادة المغربية ممثلة في رمزها وقائدها جلالة الملك، من حيث البدء في إيواء المنكوبين في تلك المناطق ذات الطبيعة الصعبة، لاسيما وأن الشتاء على الأبواب، والذي تنخفض فيه درجات الحرارة إلى ما دون الصفر؛ واستغلال هذا الوقت في إنجاز دراسات استباقية للتهيئة وتثبيت الأراضي، حتى تستطيع مباني المستقبل مواجهة أي أضرار مستقبلية.
وهنا من المفيد التذكير بالمعضلة التي استعصت على الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال، والمتمثلة في إيصال الخدمات إلى سكان المناطق النائية في جبال الأطلس، من تعليم وصحة وطرق وماء وكهرباء، أمام وعورة التضاريس وصعوبات المناخ، وإصرار السكان المحليين على البقاء في بيئتهم الطبيعية الموروثة عن أجدادهم. وعليه، يمكن فهم الإشارة الملكية الحكيمة، عندما وجه الحكومة إلى أن تتم جميع إجراءات الإغاثة والإعمار في ظل “احترام كرامة الساكنة، وعاداتهم وأعرافهم وتراثهم”؛ مع التأكيد في ذات الوقت على أن إعادة الإعمار يجب أن تشكل فرصة “لإطلاق برنامج مدروس، مندمج، وطموح من أجل إعادة بناء وتأهيل المناطق المتضررة بشكل عام، سواء على مستوى تعزيز البنيات التحتية أو الرفع من جودة الخدمات العمومية”.
هذا الفهم العميق من الملك محمد السادس لثقافة رعاياه المحلية في هذه المناطق، هي ما تفتقده معظم الحكومات والقيادات في العالمين العربي والإسلامي، التي تصر على “استنساخ الوصفات التنموية” في مختلف مناطق وقطاعات بلدانها، دون مراعاة للخصوصيات المحلية والثقافية للمناطق المختلفة.
ثاني الأفكار المبتكرة والجريئة، هي تلك الخاصة برفع عبء برنامج إعادة الإعمار عن كاهل الحكومة والموازنة العمومية، من أجل الحفاظ على التوازنات المالية للدولة. فكرة جسدها العاهل المغربي الملك محمد السادس من خلال إنشاء صندوق خاص لهذا الغرض، في تكرار للتجربة الناجحة في مواجهة تداعيات جائحة كورونا، والتي خففت من آثارها التي طالت مختلف دول العالم، وجنبت الاقتصاد المغربي تبعات فواتيرها المكلفة. ولأنه دائما في الطليعة، فقد كان جلالة الملك أول المتبرعين لهذا الصندوق من ماله الخاص، بمبلغ مليار درهم (100 مليون دولار)، ليتلوه البنك المركزي بمبلغ مماثل، على أن تتدفق التبرعات -كما هو متوقع- بعد ذلك.
بهذه الروح، استطاع المغاربة أن يجمعوا لصندوق كورونا مبلغا يتجاوز 23 مليار درهم (2.3 مليار دولار) خلال أيام معدودة، وهو المتوقع في هذه الحالة أيضا، ليتكرس “الاستثناء المغربي” في هذا الأمر، على غرار الأمور السابقة.
أما قرار الملك بتعويض أصحاب أكثر من 50 ألف منزل دمرت كليا أو جزئيا، بمنح 14 ألف دولار للنوع الأول و8 آلاف دولار للنوع الثاني (هي مبالغ كافية للقيام بالمهمة دون استخدام أرصدة مالية ذاتية)، ومنح مساعدات إنسانية (معيشية) تبلغ 3000 دولار لكل أسرة، تمكنها من الإنفاق على معيشتها لمدة تزيد على العام، فستؤدي إلى حركية اقتصادية مميزة في المنطقة، من خلال تحويلها إلى ورشة مفتوحة للبناء والإعمار والتنمية، مع تكفل الحكومة بباقي تجهيزات واحتياجات البنية التحتية، الأمر الذي سيحدث طفرة تنموية فعلية لا نظرية، في هذه المناطق التي طالما عانت من الهشاشة.
كخلاصة، يمكن القول أن تفرد النموذج المغربي راجع إلى تضافر عدة عوامل، أولها مؤسسة ملكية راسخة تتمتع بمستوى قل نظيره من المشروعية، يرأسها ملك يحب شعبه ويحبه شعبه، يفهمهم، وينصت إليهم؛ يثقون به ويسارعون إلى الاقتداء به. ثاني هذه العوامل شعب حي، يمتلك حسا عاليا بالانتماء والتضامن، ويقرأ من نفس الصفحة التي يقرأ فيها ملكه، لذا تصب جهود الطرفين في اتجاه واحد، وليس اتجاهات متعارضة. ثالث العناصر، حكومات ديمقراطية، تتداول على السلطة وفق برامج يستفتى فيها الناس في انتخابات غير مطعون في نزاهتها أو نتائجها (وهي حالة فريدة أخرى عربيا وإسلاميا)، تمتلك من الكفاءات ما تستطيع فيها ترجمة رؤى رئيسها الملك، وتلبي أولويات المواطنين.
واستطاع المغرب بفضل حنكته الدبلوماسية كسب شركاء استراتيجيين جدد، بالرغم من تموقعه في دائرة التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، إذ تمكنت المملكة من كسب الرهان بعد اعتماد نهج سياسة تنويع الشركاء السياسيين والاقتصاديين، في ظل فترة دولية صعبة، حيث الحروب المندلعة هنا وهناك والتطاحن بين الغرب والشرق.
لكن المغرب عرف كيف يغير بوصلته باتجاه شركاء جدد، هناك في الشرق نحو الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوبا نحو الدول الافريقية، ذلك لأنه بعد أزمة كورونا بدأت حملة استقطاب الدعم لكل من المعسكر الغربي والشرقي، مما دفع المغرب إلى تعزيز سياسة تنويع شركائه، بما يخدم مصالحه الحيوية. وساهم تنويع الشركاء في إعطاء دفعة جد قوية للدعم الدولي للوحدة الترابية المغربية، إذ يواصل مقترح الحكم الذاتي حصد التأييد.
وبالرجوع إلى ما حققه انعقاد المنتدى الروسي-العربي في مراكش يومي 19 و20 دجنبر الجاري،، يظهر مدى مركزية المملكة المغربية في لب العلاقات بين العرب وموسكو، وأيضا على مستوى علاقات روسية مع إفريقيا، ما يجعل الرباط مؤثرا أساسيا في مسار هذه العلاقات الإستراتيجية، لدرجة أن طابع العلاقات الثنائية بين موسكو والرباط طغى على أشغال المنتدى العربي الروسي، حيث ينتظر العلاقات الثنائية بين روسيا الاتحادية والمملكة المغربية مستقبلا زاهرا في ظل المؤشرات الحالية، وفي ظل سياسة الحياد التي ينهجها المغرب اتجاه الحرب بين موسكو وكييف.
ويرى متتبعون للشأن الروسي المغربي، أن المنتدى كان فرصة لتوطيد العلاقة بين الجانبين المغربي والروسي، والأكيد أنه رغم كل المتغيرات الدولية، بالإضافة إلى الدور المحوري الذي أصبح المغرب يلعبه في القارة الإفريقية، تحرص موسكو على وضع المملكة في قائمة الوجهات الأكثر أهمية في الظرفية الحالية، ولأن المغرب أصبح يتعامل مع شركائه من منطلق سياسة جديدة، فهو الآن يتجه ليصبح رقما صعبا داخل المنظومة الدولية التي تشهد تحولات جيواستراتيجية كبيرة في ظل الصراع الثنائي بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبين الشرق بقيادة روسيا والصين.
أما آخر هذه العناصر، فهو ما يمكن تسميته “الثقافة الإمبراطورية” للمغاربة، ملكا وحكومة وشعبا، إذ يدرك كل مغربي أنه سليل شعب عزيز مستقل، لم يُحكم من جهة خارجية على امتداد تاريخه، وأنه كان دائما “امبراطورية” عربية وإسلامية شملت في أبهى عصورها منطقة تمتد ما بين جبال البيرينيه على حدود فرنسا، إلى نهر السنغال، ومن المحيط الأطلسي إلى تشاد. إحساس بالعظمة يجعلهم لا يستصعبون صعبا، ويقبلون على التحديات -مهما عظمت- وهم واثقون من الفوز، بصبر استراتيجي، وإيمان عميق بالله وتوفيقه.