المسؤول عن النشر والاعداد
في إطار محاولة باريس ترميم علاقاتها مع المغرب، خرج مؤخرا السفير الفرنسي بالرباط، كريستوف لوكورتيي، بتصريحات خلال محاضرة ألقاها في رحاب كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال بالرباط، أكد من خلالها أن بلاده كانت دائما إلى جانب المغرب في دعم مواقفه تجاه قضية الصحراء المغربية، وأن الجيش الفرنسي سلح نظيره المغربي، بل وتدخل عسكريا ضد الجبهة الانفصالية.. فهل هذا صحيح؟ هذا ما سيحاول هذا الملف مناقشته.
جريمة فرنسا في حق جيش التحرير المغربي بالصحراء المغربية سنة 1958
إن ما يمكن ملاحظته في تصريحات السفير الفرنسي بالرباط، أن القوة الاستعمارية السابقة في إفريقيا لم تجد حرجا في الإقرار علانية بأنها تدخلت عسكريا لمصلحة المغرب.. والآن لاحظت باريس أن من مصلحتها التقرب من المغرب ولعب دور في مبادرة الأطلسي، غير أن المشكل القائم بين البلدين هو أن باريس تنظر إلى أن موقفها الذي ستعلن عنه من ملف الصحراء المغربية، هو دعم مبادرة الحكم الذاتي، في حين تطالب الرباط بموقف أكثر وضوحا وتقدما، وهو الاعتراف بمغربية الصحراء، على غرار ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2020.
وبالعودة إلى الموضوع الأساسي، وهو محاولة فرنسا التذكير بأنها قدمت الدعم العسكري للمملكة المغربية في بداية نزاع الصحراء عندما تخلى العالم كله عنها، ألا يجب بالموازاة مع هذه التصريحات طرح سؤال حول دور فرنسا في مشكلة الصحراء منذ بدايتها ؟
الواقع أن فرنسا قامت بأعمال في الصحراء المغربية وجب عليها الاعتذار للمغرب رسميا بسببها، وهي عندما ساهمت في سحق جيش التحرير بالجنوب بتواطؤ مع إسبانيا في معركة “إيكوفيون”، يوم 10 فبراير 1958، بعدما عجزت القوات الإسبانية عن السيطرة على الأقاليم الجنوبية للمملكة التي كانت تحتلها، وتعتبر هذه العملية إحدى أبرز الجرائم الفرنسية التي تعكس الخبث الفرنسي ووقوفها ضد الوحدة الترابية المغربية وعرقلة استكمال المغرب لمسار استقلاله، عندما كان جيش التحرير بالجنوب ماضيا في تحرير ما تبقى من أجزاء البلاد، بل وصل إلى موريتانيا.
والجدير بالذكر أن فرنسا الاستعمارية، التي تحاول اليوم تغليط الرأي العام الدولي والظهور بمظهر “البراءة”، جندت خلال هذه العملية 5000 عسكري و70 طائرة حربية و500 شاحنة قدمت من تندوف، انضافت إلى 9000 جندي إسباني، وذلك بهدف الهجوم على المقاومة المغربية يوم 10 فبراير 1958 ضمن عملية سرية.. وهكذا، عمل كل من الجيش الفرنسي ونظيره الإسباني على تنفيذ إبادة جماعية في حق المقاومين المغاربة والمدنيين، من نساء وأطفال وشيوخ، مما ألحق خسائر بشرية ومادية جسيمة في صفوف جيش التحرير المغربي، الذي كان على وشك الإطاحة بالجيش الإسباني واسترجاع الصحراء المغربية لولا تدخل الاحتلال الفرنسي وانضمامه إلى القوات الإسبانية.
وقبل تنفيذ عملية “إيكوفيون” التي تعني “المكنسة” باللغة الإسبانية، تم شن حملة من الغارات الجوية ضد السكان الرحل بغية إبادة كل ما يملكون من الحيوانات والماشية، ليفقدوا بسببها كل ما يملكون من وسائل عيشهم الوحيدة، وهي مناورة خسيئة ارتكبها الاحتلال في حق سكان عزل دون أسلحة، وكانت هذه المجزرة مجرد تمهيد من قبل التحالف الفرنسي الإسباني للهجوم على مراكز جيش التحرير المغربي يوم 10 فبراير من ذات السنة، في كل من أوسرد بمنطقة التيرس والسمارة وتافودارت، بدعم من السلاح الجوي والمشاة، ليتم إرغام الجيش المغربي على الانسحاب إلى مواقعه الخلفية.
إن بيان جبهة البوليساريو الأخير المطالب لفرنسا بالكف عن المشاركة في “العدوان على الشعب الصحراوي”، جعل مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القيادي السابق في البوليساريو، يهاجم بيان الجبهة ويقول إن ((جبهة البوليساريو أخلفت الموعد مع التاريخ، حيث إن هذا البيان كان يجب أن يصدر يوم 10 فبراير من العام 1958 إبان عملية إيكوفيون التي شنها الجيش الفرنسي بمعية نظيره الإسباني على الصحراويين وعلى جيش التحرير المغربي في الصحراء))، مشيرا إلى أن ((السؤال المطروح هو: أين كانت البوليساريو خلال هذا التاريخ؟))، وأضاف ولد سيدي مولود قائلا: ((الجبهة لا تتكلم عن هذه الحادثة وليست موجودة في تاريخها ولم ولن تندد يوما بهذا الاعتداء الفرنسي الإسباني المنسق على الصحراء، لأن البوليساريو لم تكن وقتها أصلا موجودة، وإنما كان هناك جيش مغربي يتبع للسلطان الراحل محمد الخامس))، موضحا أن ((السفير الفرنسي تكلم عن هذا الأمر في إطار التعاون العسكري المشترك بين دولتين مستقلتين، أما الهجوم الفعلي على الصحراء، فتم خلال سنة 1958، غير أن البوليساريو لم ولن تجرؤ على الحديث عنه لأنه سينسف وجودها)) (المصدر: الموقع الإلكتروني هسبريس).
عندما باعت فرنسا للمغرب أسلحة بأسعار مرتفعة خلال حربه مع البوليساريو واشترطت عدم استعمال طائراتها في الصحراء
أما بخصوص ادعاء فرنسا مساندة المغرب في حربه ضد البوليساريو عن طريق تسليح الجيش المغربي، فهذا أمر يستوجب التوقف عنده، وقد أثارتنا إشارة لعبد الله العروي، حيث ذكر أنه خلال سنة 1975، عندما بدأ الحديث عن ضرورة تسليح القوات المسلحة الملكية استعدادا لحرب طويلة الأمد، بدأ المغرب يعمل على شراء الأسلحة، واضطر إلى تنويع مصادر أسلحته، الأمر الذي جعله يقتني أسلحة روسية فرنسية أمريكية، لكن في السوق الحرة، أي بأسعار جد مرتفعة، وهذا يفسر أن فرنسا لم تسلح الجيش المغربي كما يدعي السفير الفرنسي، بل باعته أسلحة غالية جدا، أي استغلت الظرفية الصعبة التي كان يمر منها المغرب، لتحقق أرباحا طائلة.
وإلى جانب بيعه أسلحة بأسعار مرتفعة جدا، كانت فرنسا تفرض على المغرب قيودا فيما يتعلق باستعمال الأسلحة الفرنسية في حربها ضد البوليساريو، وكان الأمر يقتضي بأن لا ينفذ المغرب طلعات جوية فوق الصحراء المغربية بواسطة الطائرات الفرنسية التي باعتها إياه، وهذا ما جاء في وثيقة أمريكية بتاريخ 5 يونيو 1978.. لقد جعل هذا الأمر المغرب يعاني الأمرين في مواجهة جبهة البوليساريو، حيث كان يفتقد لسلاح الجو الذي كان من الممكن أن يكون فعالا في أرض منبسطة.
ويعود السبب الذي جعل فرنسا تفرض على المغرب عدم استعمال الطائرات التي اشتراها منها، إلى إرضاء الجزائر، حيث بدأت باريس تشعر انطلاقا من سنة 1978، بأنها اختارت التحالف الخاطئ عندما تحالفت مع المغرب، وبذلك أصبح هناك “توافق بين اليساريين والشيوعيين وبعض الديغوليين، يظن هؤلاء جميعا أن مصلحة فرنسا العليا تفرض عليها مسايرة الجزائر مهما كانت اختيارات هذه الأخيرة، وأنه السبيل الوحيد لإسماع صوت باريس في محافل دول العالم الثالث)) (المصدر: خواطر الصباح /عبد الله العروي).
لقد أدى رفض فرنسا استعمال المغرب لطائراتها في الصحراء، إلى دخول المغرب في مأزق كبير، حيث وجد نفسه بسبب غياب تغطية جوية لقواته، عرضة لضربات جبهة البوليساريو، وتسللها بسهولة إلى داخل مناطق غير متنازع حولها، الأمر الذي جعل المغرب يطلب شراء الطائرات من أمريكا، التي ظلت تماطله إلى سنة 1982، عندما بدأت تبيعه طائرات حربية من نوع هيليكوبتر.
الجيش الفرنسي تدخل ضد جبهة البوليساريو لحماية موريتانيا وليس لحماية المغرب
أما بخصوص ادعاء فرنسا – على لسان سفيرها بالرباط – بأن بلاده شاركت أيضا في تدخل عسكري ضد جبهة البوليساريو، فهذا أمر يحتاج إلى مراجعة والوقوف عنده، حيث أن ما يجب الإشارة إليه هو أن فرنسا شاركت فعلا في ضرب جبهة البوليساريو ما بين سنوات 1977 و1979، ولكن ليس بطلب من المغرب أو رغبة في مساعدة باريس للرباط، بل كان ذلك بطلب من موريتانيا، وتدخلت فرنسا لحماية موريتانيا التي تعرضت لهجمات متكررة من طرف البوليساريو ولم تكن قادرة على ردها، ما جعلها مضطرة لطلب تدخل باريس التي تدخلت بطيرانها الحربي، لكن داخل الحدود الموريتانية، وليس في الصحراء المغربية، وكانتقام من باريس، قام مرتزقة البوليساريو باختطاف سياح فرنسيين داخل موريتانيا سنة 1977، وغداة تحريرهم، صرح الرئيس الفرنسي فاليري جيسيكار ديستان قائلا: ((موريتانيا دولة مستقلة، فقيرة وضعيفة، لكنها تستحق الاحترام، تعرضت لهجوم داخل حدودها وطلبت من فرنسا المساندة، فاستجابت فرنسا لهذا الطلب، لا سيما وأن عددا من المواطنين الفرنسيين يشتغلون هناك ومن حقهم أن يعيشوا في أمن وسلام)).
فوز فرانسوا ميتران بالانتخابات الرئاسية ودعوة فرنسا إلى تقرير المصير في الصحراء المغربية
في خضم ما كان يعانيه المغرب في قضية الصحراء المغربية، حصل تحول في فرنسا يوم 10 ماي 1981، عندما فاز في الانتخابات رئيس فرنسي جديد وهو الاشتراكي فرانسوا ميتران، وفور فوزه برئاسة الإليزيه، أعلن أنه سيقيم علاقات مع الجزائر على حساب الرباط، وتجلى ذلك من خلال دعوة الحزب الاشتراكي الفرنسي، الذي أصبح يتوفر على أغلبية برلمانية جديدة، إلى تقرير المصير في الصحراء المغربية والذي كانت تنادي به الجزائر وجبهة البوليساريو، وقد كان هذا الأمر بمثابة المنعطف في علاقة الرباط بباريس.
ولم يتأخر المغرب في إبداء رأيه من هذا الموقف الجديد، إذ عقد الملك الراحل الحسن الثاني مؤتمرا صحفيا يوم 1 يونيو 1981 بالرباط، خصص لقضايا فرنسا وأمريكا وقضية الصحراء، وقد كان من بين أهم القضايا التي تفاعل معها رجال الصحافة، موقف المغرب من دعوة الحزب الاشتراكي الفرنسي إلى تقرير المصير في الصحراء المغربية، حيث طرح السؤال التالي من جريدة “لاكروا”: “صاحب الجلالة، إن المشاكل المرتبطة بنزاع الصحراء لا تأتي فقط من الدول الإفريقية، ولكنها قد تأتي من بعض الدول الغربية ومن بينها فرنسا، التي تتوفر على أغلبية جديدة، خاصة وأن الحزب الاشتراكي دعا إلى تقرير المصير بالنسبة للصحراويين، فكيف سيكون رد فعلكم إزاء فرنسا؟”، فكان رد الملك كالتالي: ((ليس من الحكمة الخلط بين وضعية داخلية فرنسية وقضية إفريقية، لقد غيرت فرنسا رئيسها، ولكنني لا أظن أنها غيرت سياستها حيال إفريقيا، وإضافة إلى ذلك، وفيما يرجع للصحراء، لا أظن أن الرئيس جيسكار ديستان والرئيس الحالي ميتران يختلفان في اعتبار أن المشكل يتطلب حلا سياسيا، لقد كان الرئيس السابق يؤكد لي وجوب إيجاد حل في إطار إفريقي، أضف إلى ذلك، أن الأفارقة أظهروا اقترابا أكثر إلى الواقع، فلو قاموا بتحليل الطبيعة الحقيقية للبوليساريو كمنظمة تحرير، لكانوا قد فهموا أنه لا يتوفر على المعطيات التي تعرف بها منظمات التحرير، ولو عادوا إلى الوراء بضع سنوات، لاتضح لهم أن البوليساريو ظهرت كمنظمة تحرير بعد انسحاب الإسبانيين من المنطقة، ونتيجة لذلك، لم تطلق رصاصة واحدة ضد أي جندي إسباني، وأخيرا كان على الأفارقة أن لا يتركوا لدول أخرى غير إفريقية إمكانية التدخل والاستقرار في القارة)).
وبعد هذه القضية بقليل، تعرض قادة حزب الاتحاد الاشتراكي لاعتقالات كان من بينهم عبد الرحيم بوعبيد، بفعل موافقة المغرب على مخطط لمنظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي حاليا)، أثناء انعقاد قمة المنظمة في العاصمة الكينية نيروبي، على شروط إجراء استفتاء في الصحراء المغربية، وقد أعرب وقتها المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عن تحفظاته بشأن قبول هذا الاستفتاء في بيان مؤرخ بـ 5 شتنبر 1981.
وقد كان الحزب الاشتراكي الفرنسي ينتظر الفرصة السانحة لمهاجمة المغرب من جديد، ولم يجد أفضل من هذا المشكل، لذلك أصدر بلاغا نشره يوم 9 شتنبر 1981، طالب من خلاله بإلحاح بإطلاق سراح عبد الرحيم بوعبيد وبقية أعضاء المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، غير أن هذا البلاغ لم يكن كباقي البلاغات، فقد جاء فيه أن ((الإفراج عن المعتقلين المذكورين سيقيم أمام الحزب الاشتراكي الفرنسي البرهان على أنه لا تزال بالمغرب بعض أثار نظام ديمقراطي للحكم))، وهكذا يظهر من خلال المفردات المستعملة، أن الحزب الحاكم في فرنسا استعمل مفردات لا تليق بمخاطبة دولة لها سيادتها.وعلى إثر ذلك، لم تتأخر الحكومة المغربية في الرد.. فقد نشرت تصريحا يوم 10 شتنبر 1981، ردا على بلاغ الحزب الاشتراكي الفرنسي، اعتبرت من خلاله أن ((هذا التدخل، سواء بالنظر إلى حجمه أو إلى جسارة صيغته، يستدعي من قبل الحكومة المغربية تقديم بعض الملاحظات حوله، وكانت كالتالي:
+ أولا: إن المغرب لا يقبل بتاتا أي خرق لحرمة مبيتة، وأي تدخل في شؤونه مهما كان البلد المسؤول عن ذلك، اللهم إلا إذا لحق ضرر أو كاد بالمصالح الحيوية أو المعنوية أو المادية لذلك البلد.
+ ثانيا: تلاحظ الحكومة المغربية بأسف عميق، أن الحزب الاشتراكي الفرنسي إذ يستعمل عبارة “المطالبة بإلحاح”، فهو يتخذ في ذات الوقت موقفا منافيا للواقعية، وموصوفا بجهل تام للقواعد والأعراف الجاري بها العمل في العالم.
+ ثالثا: يحق للحكومة المغربية – وهذا أقل ما يمكن أن يقال – أن تتساءل باستغراب صادق كيف أجاز الحزب الاشتراكي الفرنسي لنفسه أن يدافع دفاعا أعمى ومسبقا وغير منطقي عن موقف مناهض للاستفتاء في الصحراء المغربية؟
+ رابعا: إن الحكومة المغربية فيما يخصها، تتأسف بصدق لهاته المجاملة التي لا موضوع لها والتي تثير الأسى، وتأمل سياسيا أن يتخلى الحزب الاشتراكي عن أسطورة ازدواجيته الشخصية، وذلك لخير العلاقات المغربية الفرنسية)).
ومنذ ذلك التاريخ، ظلت فرنسا متقربة من الجزائر على حساب المغرب، ولم تعد العلاقات المغربية الفرنسية إلى القوة والمتانة إلا على عهد الرئيس جاك شيراك، ثم بعده دخلت العلاقات بين البلدين في مرحلة الشد والجذب وصولا إلى الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون.