المسؤول عن النشر والاعداد
لطالما كان براديغم المغرب متفردا في التفاعل معمحيطه والتأثير في جواره من منطلق الخصوصيةالمغربية” تامغرابيت ” كمفهوم هوياتي قديم من ناحية“علم التأثيل“، وكمصطلح كان ولا يزال دارجا فيالمتداول اليومي للمغاربة يجمع كلالروافد الاثنوغرافية.
لكن هذا لا يجب أن يفهم منه أن المغرب كان بدعا منالشعوب في مقاومته وكفاحه وفي بناء صرحه التنمويبل يعني أنه رغم اتساقه مع الأنماط المجتمعية الأخرىوتقاسمه نفس الرؤى ونفس الأهداف معها غير أنهظل متفردا في طريقته وفي سلوكه لنسج نموذجهبخيوط التامغرابيت.
وليس معنى هذا أيضا ان المغرب لم يحاول دمج الجوارفي مسار نهضته وأنه لم يضرب بسهم في مناصرةشعوب منطقته ولكنه كان دوما كمن ينفخ في غيرضرم فما زاده ذلك إلا حلما وإصرارا على تغليب أواصرالأخوة وقيم الجوار.
وإذا كان المغرب قد راكم رصيدا قويا وازنا من الخبرة فيالنضال والتحرر أولا وفي البناء والتنميةبعد ذلك فهو في نفس الآن قد أدركباكرا المسؤولياتالجسام المنوطة به جيوستراتيجيا كملتقى للحضاراتونقطة وصل بين القارات وكنز العالم من التراث .
وهذا ما تبسطه أمامنا صفحات التاريخ المجيدة لهذاالبلد، فقد واجه لوحده منفردا صلبا شامخا منهزما تارةومنتصرا تارات عديدة الأطماع الأوروبية منذ بدايةحروب الاسترداد وسقوط آخر قلاعالمسلمين “غرناطة” سنة 1492،حيث تكالبت عليه أكثرمن 30 حملة صليبية تستهدف إضعافه وتفكيكتماسكه، لكنه ضل سدا منيعا امام التوسعات الأوروبيةنحو أفريقيا، وتعد معركة وادي المخازن المهيبة هيالصخرة التي تحطمت عليها أوهام التوسعيين ، لتتقوىبعد ذلك شوكة الدولة السعدية على يد السلطان أحمدالمنصور الذهبي الذي وصل نفوذه إلىغاية تومبوكتو فأصبح بذلك قوة إقليمية تنافسالإمبراطورية العثمانية التي بلغ نفوذها حدود المغربالشرقية، ولعل ذلك هو ما يفسر تأخر فرض الحمايةعلى المغرب إلى غاية 1912 رغم الأطماع والمناوراتالأوروبية بالمنطقة التي بدأت عقودا قبل ذلك ورغم أنفرنسا كانت قد تمكنت من ضم الجزائر إلى أقاليمها منذ1830 ،ليقرر المغرب بعد ذلك الدخول فيمواجهات مباشرة مع فرنسا لمساعدة المقاومةالجزائرية بقيادة الأمير عبد القادر ، فكانتمعركة ايسلي التي انهزم فيها سنة1844فجددت الأطماع الاستعمارية لفرنسا كما تجليهالنا الشروط المجحفة لاتفاقية لالة مغنية (1845) وتوقيع بروتوكول 1901 والنص التطبيقي له في 1902 لتنزيل تطبيق هذه الاتفاقية والاستيلاء على مزيد منالأراضي المغربية من خلال ترسيم الحدود بين البلدينجنوب وهران لغاية فكيك والتي قوبلت بالرفض منطرف القبائل وتمت مواجهتها بالمقاومة المدعومةخاصة من قبائل تافيلالت، لتندلع بعد ذلك مقاومةشاملة بعد سقوط وجدة والدار البيضاء في 1907 فتثورقبائل الشاوية عن بكرة أبيها أولا ضد القياد وذويالنفوذ الذين استغلوا نفوذهم لتفقير المنطقة ثم بعدذلك لمواجهة المستعمر وقد كانت معركة القصباتمن أهم المعارك التي دحر فيها ابناء الشاوية الاشاوسالمستعمر سنة 1908 .
ومباشرة بعد توقيع اتفاقية الحماية سنة 1912حيناقتسمت فرنسا وإسبانيا تراب المغرب إلى منطقةسلطانية تحكمها فرنسا ومنطقة خليفية تحكمهاإسبانيا اندلعت المقاومة بشكل أعنف في جميعربوع البلاد لتبدأ معها بعد ذلك فصولا أخرى منالمقاومة ضد المستعمر سطر فيها المغاربة بأحرفمن دم وتراب صفحات من المجد والعزة تأرجحت بينالتلقائي والمهيكل وبين السياسي والمسلح ، نكتفيهنا بالتذكير ببعض فصولها فقط فهي محفورة فيالذاكرة الجمعية للمغاربة.
ففي تازة مثلا واجه المستعمر مقاومة شرسةبقيادة الحجامي،وبقبائل الأطلس المتوسط بقيادةموحى اوجمو الزياني لقن المستعمر درسا قاسيا لازاليذكره لحد اليوم في معركة الهري المجيدة، وفيالجنوب قاد المقاومة الشيخ أحمد الهيبة وبمنطقةدرعة اشتدّت شوكة المقاومة على يدبلقاسم النكادي، وبالأطلس الكبير كان انتصارمقاومة قبائل ايت عطا المجاهدة تحت قيادةعسو أبسلام في معركة بوكافر، دون أن نغفلالمقاومة الخالدة التي ألهمت كل ثوار العالم مقاومةأهل الريف تحت قيادة المجاهد عبد الكريم الخطابيالذي انتصر على المستعمر في معركة أنوال في 1921.
هي نماذج فقط وقفنا من خلالهاعلى البراديغم المغربي الفريد في مقاومة المستعمرالذي ألهم جيرانه وألهم ثوار العالم في وقوفه منفردابسواعد أبنائه ضد تكالب الأطماع التوسعية.
وبحلول 1934 وبعد اخماد فرنسا وإسبانيا وحلفاءهمالمعظم الثورات المندلعة ضدها برزت إلى السطحالمقاومة السياسية متمثلة في الحركة الوطنية للكفاحالسياسي ضد الوجود الاستعماري خاصة بعد إقرارسلطات المستعمر لما عرف بالظهير البربري.
ومباشرة بعد إجبار القوة الاستعمارية الفرنسية للملكمحمد الخامس على مغادرة المغرب ونفيه اشتدّتضراوة المقاومة ولم تستكن إلا بحصول المغرب علىاستقلاله في 1956 بعد نضال سياسي وكفاح عسكريوتحالف متين بين القوى الوطنية والشعب والعرش.
وقد كان خطاب المغفور له بإذن ربه الملك محمدالخامس أب الامة بعد الرجوع من المنفى بمثابة خارطةطريق لبناء المغرب الحر الحديث وهو يردد “اليوم انتقلنامن الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ” ليرفع جلالته بعدذلك لواء التحرر بالقارة السمراء وعده جزءا لا يتجزأ منالخط التحرري الوطني، فجلالته طيب الله ثراه لم يكن زعيما وطنيا في تاريخ المغرب المعاصر فحسب بلامتد صيته ليطبق آفاقا أوسع في افريقيا والمشرقالعربي وبذلك أطلق براديغم المغرب ليكون رمزاعالميا للتحرر في القرن العشرين .
وهو ما يظهر على وجه المثال لا الحصر منخلال التفاعل والتعاون مع الرئيسالغاني كوامي نكروما لعقد أول مؤتمر للدول الإفريقيةالمستقلة في أبريل عام 1958 الذي حضرته ثمانية دولإفريقية مستقلةمن شمال وجنوب الصحراء.
ودعوته إلى مؤتمر إفريقي انعقد من 4 إلى 7 يناير 1961 بالدار البيضاء عرف “بمؤتمر الأقطاب الأفريقية“. ونتجعنه “ميثاق الدار البيضاء” الذي سيضع النواة الأولىللتعاون الإفريقي تحت اسم “منظمة الدار البيضاء” ضمدولا عرفت ب “مجموعة الدار البيضاء” وهي مصر وغاناوغينيا ومالي بالإضافة إلى المغرب فضلا عن ممثلينعن حكومة الجزائر المؤقتة قبل حصولها علىالاستقلال ، ويعد هذا المؤتمر البادرة واللبنةالاولى للعمل الإفريقي المشترك قبل إنشاء منظمةالوحدة الأفريقية عام 1963.
ومباشرة بعده تسلمه لواء الأمانة بادر المغفور لهبإذن ربه الملك الحسن الثاني غداة تبوئه سدةالحكم سيرا على نهج والده المنعم في الدفاع عنالقضايا التحررية في إفريقيا وتوفير وسائل الدعملكفاحها ونهوضاً بدور المغرب كفاعل أساسي فيمعركة تحرير إفريقيا من ربقة الاستعمار إلى إحداثوزارة خاصة بـ “الشؤون الإفريقية” في فبراير 1961 أسندمسئوليتها إلى الراحل الدكتور عبد الكريمالخطيب،أشرفت هذه الوزارة على توسيع وتمتينأواصر التضامن مع حركات التحرير في أنجولا، غينيابيساو، الرأس الأخضر، الموزمبيق، ساو تومي وبرنسيب.
وفي نفس السياق التضامني مع حركات التحررالإفريقية، استقبل المغرب سنة 1962، موفد “المؤتمرالوطني الإفريقي” بجنوب إفريقيا الراحل نيلسونمانديلا الذي جاء مبعوثاً من حركته (ANC ) لطلب الدعمالمغربي خاصة الدعم العسكري لمواجهةنظام الأبارتيد، وهو الأمر الذي مكنه منه المغرببدعمه لوجيستيكيا وعسكريا وماليا فضلاً عن مؤازرتهسياسيا.
كما قام المغرب في هذه الفترة بتهييئ ظروفاللقاء والتفاعل بينالزعيم الجنوب الإفريقي وأطر جبهةالتحرير الجزائرية بوجدة بين الحركتين التحريريتينالجزائرية والجنوب الإفريقية.
ليتوج عهده طيب الله ثراه بواسطة عقد الجهاد وذروةسنامه المسيرة الخضراء المظفرة التي جاءت فيظرفية صعبة تكالبت فيها دول الجوار على بلادناواستأسدت بقوى المعسكر الشرقي حيث لم يشفعللمغرب كل الجهود والتضحيات التيقدمها لهذه الدول.
لكننا انتصرنا وحدنا وانتصرت مسيرتنا وانهزموا لفيفا كماكان دأبنا دائما.
لم ينثني المغرب رغم هذه العوائق عن مواصلة سعيهالحثيث من أجل الوحدة ونبد الفرقة وجمع الإخوة علىكلمة سواء فدعا الى تأسيس اتحاد المغربالعربي بمراكش سنة 1989 الذي عاش مرحلتهالذهبية بين 1989 و 1994، وهي مرحلة وإن كانت قصيرةلكنها عرفت انتعاشا اقتصاديا وسياسيا أخرج المنطقةمن سنوات من الركود.
لكن الأزمة بين المغرب والجزائر على خلفية تفجيراتمراكش الإرهابية إضافة إلى مواصلة الجزائر دعمهالمنظمة البوليساريو التي خلقتها لزعزعة أمنالمنطقة كان وراء تجميد معظم هياكل الاتحادوالعودة به إلى نقطة الصفر.
ويواصل اليوم جلالة الملك محمد السادس تحريكدينامية التحديث والبناء عبر إرساء أسس اقتصاديةعصرية وتنافسية وتكريس قيم الديمقراطيةوالمواطنة وبناء مغرب المؤسسات ، مغرب الأمنوالسلم والتعايش مع الاستمرار في نهج سياسة اليدالممدودة نحو العمق الأفريقي التي كرّسهابالعودة إلى الصف الافريقي في 30 من يناير2017 للقطع مع سياسة الكرسي الفارغ منذ 1984 حصدبعدها المغرب مجموعة من المكتسبات الدبلوماسيةفي الملف المتعلق بالوحدة الترابية خاصة سياسةالقنصليات التي أرعبت الخصوم وألجمتهم ووضعت حدالأطماعهم وأخرست ألسنتهم الناطقة بالبهتان فيالمحافل الدولية فأصبحوا معزولين يغردون خارجالسرب الأممي.
ليتوج جلالته مسار التنمية والانفتاح وتكريس البراديغم المغربي عبر طرح مبادرة الأطلسيفي صورة تشبيك علائقي لدول الساحل والصحراءوالتي ستمكن دول هذه المناطق من الولوج إلىالأطلسي وتدوير عجلة الاقتصاد مما من شأنه التجليإيجابا على أمن المنطقة وعلى الاوضاع المشتعلة بها،ولا زال قطار التنمية منطلقا بسرعة البراق على نهج“البراديغم التمغرابتي” فمن أراد الالتحاق ما عليه إلامضاعفة السرعة والتمسك بإحدى قاطراته ، وإلافمحطات الانتظار كثيرة على الطريق.
هو ذا براديغم المغرب وهذه رؤيته وذاك تأثيره بينالأمس واليوم بين علو كعب في حسن الجوار ورسوخقدم في رسم المسار وإقامة الحق بين الامصار وامتدادبصيرة إلى قادم الأدوار.
د. سعاد الوردي