هل تعلمون لماذا في نهاية السبعينات وبداية التمانينيات من القرن الماضي أطلقت النخب المثقفة والسياسيون لقب المعلم على الحسن الثاني؟
لا يستطيع أيا كان من المغاربة أن ينفي أن اسلوب الحسن الثاني رحمه الله في تدبير حكم المغرب كان صارما ، وأن الرجل كان براغماتيا، عمليا، يرجح دائما كفة ميزان منفعة و مصلحة المغرب العليا ، على كفة العاطفة، والأخوة ، والحنان ..إن رأى أن هذه الأخيرة قد تضر بمصالح المغرب ،….وهو عكس ما كان عليه سلفه محمد الخامس رحمه الله الذي كانت العاطفة والحنان والأخوة تؤثر في اتخاذ قراراته …والتي أضاع بسببها المغرب العديد من حقوقه ومصالحه،
….نذكر على رأسها القرار الذي اتخذه بإرجائه مناقشة ترسيم ، وتوقيع الإعتراف بحدود المغرب الشرقية مع فرنسا، أيام كانت هذه الأخيرة هي من تجاورنا شرقا، وكانت هي صاحبة الحل والعقد، وهي من تقرر في أرض مستعمرتها الجزائر انذاك ، …رفض محمد الخامس عرضها بإرجاع كل ما تبقى تحت يديها من صحرائه الشرقية رغم محاولات فرنسا وإلحاحها المتكرر إرضائه ،… ،لكن محمد الخامس رحمه الله غلب العاطفة والطيبوبة، على مصلحة المغرب الخاصة… ، كان يثق ثقة عمياء لم تكن في محلها في ثعالب الجزائر ، واجاب فرنسا بكل ثقة بأنه يفضل إرجاء مناقشة مسألة حدوده الشرقية إلى حين مناقشتها، وترسيمها مع أشقائه الجزائريين، بعد استقلالهم عنها ،…فعل ذلك محمد الخامس وضحى بمصلحة بلاده ، حتى لا يعترف بسيادة فرنسا على أرض الجزائر…. ، وحتى لا تقيده فرنسا بشروط، تفرض عليه إيقاف دعمه اللا محدود، لجبهة التحرير الوطني الجزائري التي كان يحتضن كل رجالاتها وقيادتها الفاعلة ضد الإستعمار الفرنسي ببلده …،لكن بعد استقلال الجزائر ، خانت هذه الأخيرة العهد ، وتنكرت لكل ما قدمه المغرب لها، طمعا في أرضه التي تركتها فرنسا بين يديها بعد خروجها منها … ،واستولت على صحرائه الشرقية بدعم من فرنسا، التي ردت الصاع للمغرب، الذي كان يساند بلا هوادة استقلال الجزائر ويدعم تحريرها ضد مصالحها ،وأصبحت الجزائر تتبنى مبدءا استعماريا محضا اتجاه المغرب ، وتقول أن أراضي الصحراء الشرقية حتى وإن كانت مغربية الأصل ، فهي قد ورثتها عن مستعمرتها فرنسا…وأنها لن تتخلى عنها لأنها تؤمن بمبدأ : ( الحدود الموروثة عن الإستعمار ) …وكان هذا درسا قاسيا على الحسن الثاني, عانى منه وتعلم منه في نفس الوقت الشيء الكثير، و أثر في سياسته فيما بعد، وأصبح الحسن الثاني أكثر واقعية في اتخاذ وحسم قراراته، …بالنسبة له رحمه الله، لا شيء بعد الدين طبعا يمكن أن يعلوا على مصلحة الوطن، وشعاره في الحياة هو ( الله ،الوطن، الملك ) ، المغرب ثم المغرب ثم المغرب أولا وأخيرا …..
.المجاملات، والأدب، والأخلاق، ودغدغات العواطف، تنتهي عنده عندما تمس مصلحة الوطن ،…و أريد هنا بالمناسبة أن اعطيكم فقط مثلا قويا …أريده أن يعلق بذاكرة كل من يقرأ هذا المقال ليعرف، ويقدر عبقرية المرحوم الحسن الثاني ويدعو له بالرحمة في تعليقه
….عندما كان رحمه الله أمام خيارين إثنين لا ثالت لهما، إما أن يكون عمليا ، و يستعمل عقله ، ويخضع اختياره لمنطق المنافع، ويرضى بما يستطيع أن ينتزعه و يحصل عليه . …وإما أن يحتكم للعاطفة ، والرغبة في الكمال ، ويحلم بما لن يستطيع أبدا تحقيقه ..ويخسر مصلحة المغرب، و يخسر كل شيء ….وفي الأخير قرر، ورجح كفة المنطق والعقل ، وربح الرهان ….ففي سنة 1975 بعدما استشعر رحمه الله ، أن سيناريو فقدان المغرب لموريتانيا يحاك من جديد ضد المغرب ، ويتكرر بنفس الأسلوب ، ليدفع المغرب إلى خسارة هذه المرة صحرائه، ..عندما رأى إسبانيا تجيش سكان الصحراء ممن يدينون لها بالولاء، و وممن كانت تعطيهم امتيازات هائلة، ليؤطروا لها الصحراويين، ممن كانت تختارهم أنذاك كنواب عن سكان الصحراء ببرلمانها (الكونغريس)
…، رآها الحسن الثاني تدفعهم خلسة ليطالبوا باستفتاء تقرير المصير
..ويعبؤوا السكان لذلك، بالشكل الذي يجعل إسبانيا تتحكم في نتائج الإستفتاء …ليأسس اتباعها منهم ،أجهزة دولة يتسيدون فيها ، ويجعلونها تابعة لإسبانيا، و بعيدة عن الولاء للمغرب، الذي كان يضايقها ويطالبها باسترجاع صحرائه ،…وهو نفس السيناريو الذي سبق أن طبقته فرنسا مع موريتانيا أيام ولد دادا ، …وبذلك تضيع صحراء المغرب منه بلا رجعة كما ضاعت موريتانيا
….. لما رأى الحسن ذلك، خضع للحكمة والعقل ،وأقنع إسبانيا على ان تعيد له صحرائه ، هو وموريتانيا التي كانت هي الأخرى تنازعه عليها، بتحريض من بومدين ..ووعد إسبانيا إن هي أرجعت الصحراء لهما، سيتركا لها استغلال منجم الفوسفات ببوكراع، الذي كان يعرف الحسن الثاني مدى أهميته عندها ، لأنها هي من اكتشفته … ولأن المغرب كان له من فسفات خريبكة ما يكفيه ويغنيه عنه …كما أقنع الحسن الثاني موريتانيا بحل اقتسام الصحراء : التلثين من مساحة شمالها (إقليم الساقية الحمراء)يخضع لسيادة المغرب، والتلث الجنوبي يخضع لسيادة موريتانيا (إقليم وادي الذهب) ، ووافق الجميع على ذلك في اتفاق كان سريا للغاية خوفا من تدخلات بومدين لتقويضه ، قبل أن يوقع، الإتفاق ،ويخرج رسميا للعلن بماسمي باتفاقية مدريد التلاثية ، التي أبرمت مباشرة بعد المسيرة الخضراء التي قام بها المغاربة لصحرائهم ، ..والذي لا يعرفه الجميع هو أن الحسن الثاني كان بحكم خبرته وفطنته السياسية ، درس مسبقا هذا المشكل…وكان يعرف أن بومدين والقذافي مدعومين بأموال البيترول والغاز، لن يرضيا، ولن يوافقا ابدا على أن يستعيد المغرب ولو حبة رمل واحدة، من رمال صحرائه، وأن الإتفاق بهذا الشكل حتما سيدفع بومدين والقذافي لإرتكاب حماقة ضرب موريتانيا بعنف وقسوة… ، ويركزون كل جهودهم على قهرها و ضربها، وتخريبها لإرغامها على الخروج من وادي الذهب، لأنها هي الحلقة الأضعف في الإتفاقية، وإذا إستسلمت وسلمت للبوليزاريو إقليم وادي الذهب …ستحصل البوليزاريو على تراب، ما يمكن أن يعتبر وطن ، وتحصل على موطأ قدم في الصحراء أولا ، وستقول للعالم أنها حررته كبداية ، وتؤسس عليه دولتها ، وتشتري اعترافات دولية بها بأموال الغاز والبيترول الجزائري الليبي ، ومنه تنتقل لمهاجمة المغرب دائما بدعم وتسليح من أموال الجزائر والقدافي. حتى تطرده هو الآخر من الساقية الحمراء لإستكمال اراضي دولتها المزعومة، بالشكل الذي تخيله القدافي والجزائر في صناعتها ، ….فطلب الحسن الثاني من ولد دادا رئيس موريتانيا أن يوقعا معا اتفاقا مهما للغاية… ، وهو اتفاق الدفاع المشترك بين المغرب وموريتانيا …..بين فيه الحسن الثاني لولد دادا، أن اتفاق الدفاع المشترك هذا سيعطي المغرب الحق في الدخول بقواته وعتاده ، للأراضي الموريتانية للدفاع عنها إن هي تعرضت من الجزائر وليبيا لهجوم كبير ، حتى لا تسقط دولة و نظام موريتانيا ، لأن ذلك الإتفاق سيعطي الشرعية للمغرب للدخول لإقليم وادي الذهب، دون أن يدان دوليا، بالتدخل في أراضي أخضعتها اتفاقية مدريد التي وقع عليها لسيادة موريتانيا ، وأقنع الحسن الثاني بن دادا بأن هذا كله لحمايته ، وأنه إن اقتضى الحال فالمغرب يمكنه أيضا إدخال قواته إلى الأراضي الموريتانية للدفاع عنها إن تعرضت لإعتداء كبير، واستنجدت به، وهكذا أخذ الحسن الثاني اتفاقية الدفاع المشترك من ولد دادا ..وأدخل جنوده بموجبها جنوبا لإقليم وادي الذهب ونشرهم هناك ، لكي يقطع الطريق على أي تسرب لقوات الجزائر إلى وادي الذهب حتى لا تبسط سيطرتها عليه، بعدما تهزم موريتانيا…هاجمت بعدها قوات البوليزاريو وقوات الجزائر موريتانيا بدعم من القذافي ، وكانت هجمات قاسية مؤلمة وقاتلة .اودت بالعديد من الأرواح ..من الطرفين ….وجعلت المهاجمين يدخلون حتى نواكشوط عاصمة موريتانيا ، ويخربون البنى التحتية ..وكان بإمكانهم إسقاط دولة موريتانيا كنظام ، لولا تدخل فرنسا بطيرانها ، دفاعا عن موريتانيا ..وقتلها للبوليزايو وللجزائريين، …
فرنسا التي أبادت العديد من المهاجمين …وسقط من بينهم الوالي مصطفى السيد زعيم البوليزاريو أنذاك ….واستمر القتال إلى أن استسلمت موريتانيا وأعلنت تنازلها النهائي عن كل حقوقها باتفاقية مدريد …مما جعل المغرب يبسط سيطرته على اقليم وادي الذهب …بل ويتلقى بيعة زعماء قبائله لملك البلاد ، البيعة التي خولت المغرب استرجاع وادي الذهب رسميا سنة 1979، بعدما تخلت موريتانيا كتابة ونهائيا عن الإقليم من قساوة نيران الجزائر والبوليزاريو …، ولكن لأن اتفاقية مدريد أصبحت لاغية، بخروج موريتانيا منها ….واصبحت لا تعطي حتى إسبانيا الحق في استغلال منجم الفوسفات ببوكراع ، ولا الصيد بمياه الصحراء كما نصت على ذلك ، استرجع الحسن الثاني بمجهودات الجزائر وأرواح جنودها وبأموالها وأموال ليبيا، الداخلة ووادي الذهب …وللعلم فقط لولا تدخل فرنسا لانقاذ نظام ولد دادا من السقوط …لكانت الجزائر أسقطته ، ولبايع زعماء قبائلها هي الاخرى بنفس الخطة جلالة الملك الحسن الثاني، ليستعيدهم كرعايا مغاربة ….ولدخل الحسن الثاني موريتانيا مستعيدا حقه التاريخي عليها بالبيعة ، ولكان شأنها اليوم شأن صحراء المغرب..،تعيش تحت سيادته ..ولأعيدت حدود المغرب الحقة كما كانت حتى السنغال جنوبا …لكن تدخل فرنسا ..أفسد خطة الحسن التاني الإحتياطية باسترجاع أرض موريتانيا …وهكذا استطاع الحسن الثاني طيب الله ثراه قلب الطاولة على بومدين والقدافي والضحك عليهم واستغلال غبائهم في استرجاع إقليم وادي الذهب، وعلى ذلك لقبه المغاربة المثقفون بالمعلم ، وأصبحوا يتداولون الكلام ب هل سمعتم ورأيتم ماذا فعل فعل المعلم ببومدين والقذافي… إلخ الحسن الثاتي رحمه الله كان ملكا عظيما ، وسيظل عظيما عظمة مملكة إسمها المغرب، واستحق بالفعل بجدارة أن يطلق عليه لقب ( المعلم )..لأنه بالفعل معلما وأستاذا اعطى دروسا لأعدائه، وترك فيهم ولي عهده محمد السادس يكمل فيهم ما بدأه والده وأستاذه …..