عندما قال الملك الراحل الحسن الثاني في أحد خطاباته الشهيرة إن “على العالم أن يعرف مع من حشرنا الله في هذه المنطقة” فإنه قد لخص حكاية النظام الجزائري مع أيديولوجيا إثارة الفتن والقلاقل، وزرع بذور النزاع في منطقة شمال إفريقيا والساحل والصحراء. هذا الميول العدواني والتخريبي هو الذي أكّدته السلطات المالية يوم أمس عندما انتقدت في بلاغ شديد اللهجة وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية ودعتها صراحة إلى “توجيه طاقتها نحو حل أزماتها وتناقضاتها الداخلية بما في ذلك المسألة القبائلية والتوقف عن استخدام مالي كأداة لتعزيز موقعها الدولي”. جاء هذا البلاغ على خلفية التصريحات التي أدلى بها وزير خارجية الكابرانات يوم الاثنين الماضي بخصوص التطورات في مالي، ورفضه تصنيف تنظيم أزواد بالتنظيم الإرهابي.
وزير الخارجية الجزائري الذي يعيش أسوأ أيامه بسبب الخيبات الدبلوماسية الكبيرة التي حصدها مؤخرا، لم يتردد في إطلاق تصريح يعدّ بمثابة محاولة جديدة لإشعال نيران الفتنة في جمهورية مالي، حيث دعا إلى إعادة المفاوضات بين باماكو وبين الحركات الانفصالية والإرهابية التي تقاتلها بوساطة جزائرية. والبلاغ الشديد اللهجة الذي أصدرته مالي بالأمس ليس سوى تتويج لموجة من الاحتجاجات الدبلوماسية السابقة التي عبّرت عنها السلطات المالية ضد التدخلات الجزائرية في استقرار البلاد وشؤونها الداخلية. ففي دجنبر من سنة 2023، استدعت وزارة الخارجية المالية سفير الجزائر ببلادها احتجاجا على “أفعال غير ودية” من جانب بلاده، و”تدخلها في الشؤون الداخلية” لمالي.
وكانت السلطات الجزائرية حينها قد جسدت تدخلها في الشؤون الداخلية للبلاد من خلال عقد اجتماعات مع انفصاليين طوارق دون حضور السلطات المالية. ويحاول نظام الكابرانات باستمرار استغلال مسمّى “الوساطة المزعومة” في مفاوضات السلام من أجل فرض توجهات تعقّد الوضع الأمني، وتزيد إشعال البلاد التي تعاني أصلا من هشاشة أمنية بسبب تناثر الجماعات الإرهابية والانفصالية المسلحة، وضعف السلطة المركزية بعد سنوات طويلة من التدخل الأجنبي. وللمفارقة يتزامن هذا الاحتجاج المالي الجديد ضد تدخلات النظام الجزائري، مع بدء مندوب الكابرانات في الأمم المتحدة رئاسته الدورية لمجلس الأمن. كما أنه يعبر عن تناقض صارخ بين الخطابات الزائفة التي يطلقها الرئيس الجزائري وقادة الكابرانات حول دعم الاستقرار والأمن وبين الممارسات الميدانية التي تعمّق جراح العديد من دول القارة السمراء.
وما احتجّت عليه السلطات المالية هو نفسه الذي يحذّر المغرب منه منذ زمن طويل. وقد أظهرت هذه الأزمة الجديدة مع السلطات المالية أن النظام الجزائري لم يعد قادرا على كبح ميولاته التخريبية في منطقة شمال إفريقيا، سواء في المغرب أو النيجر أو ليبيا، أو حتّى موريتانيا التي اضطرت مؤخرا إلى إجراء تغيير جذري في قيادات الجيش بعد التوصل إلى معلومات حول مخطط انقلابي مدعوم من النظام الجزائري. وتُظهر هذه الوقائع كلها أن النظام الجزائري تحوّل بصفة رسمية إلى دولة مارقة تعيش على تمويل النزاعات والحروب، واختلاق التنظيمات الانفصالية والإرهابية، في محاولة لتصدير أزماتها الداخلية إلى الخارج. إن النظام الجزائري ليس سوى نسخة طبق الأصل من النظام الإيراني أو النظام السوري السابق.
ومن غير المستبعد أن يعمد الكابرانات مرة أخرى بعد احتجاج السلطات المالية إلى تشجيع التنظيمات الانفصالية والإرهابية على التعنت ورفض أيّ مقترحات من السلطة المركزية للتوصل إلى اتفاق نهائي لتسليم أسلحتها، وتهدئة الأوضاع في شمال مالي، والإسهام في استقرار البلاد والانتقال إلى مرحلة البناء والتنمية. لكن على العموم فإن تذكير السلطات المالية بقضية الشعب القبائلي وحقّه في التمتع بتقرير المصير، يشكل أيضا إشارة دبلوماسية قوية، وضعت السلطات الجزائرية اليوم في موضع إحراج شديد، وأظهرت نفاقها السياسي الواضح. فبينما تقمع الشعب القبائلي وترفض تمتيعه بأيّ من حقوقه التاريخية الثقافية أو السياسية، فإنها تشجع على زرع الفتن والحركات الانفصالية في بلدان الجوار سواء في شمال إفريقيا أو في منطقة الساحل والصحراء.