عز الدين السريفي
في زحمة الشعارات المرفوعة باسم فلسطين، تتخفى معارك نفوذ ومصالح تتجاوز بكثير سقف الخطاب السياسي الظاهر، وإذا كان طريق تحرير القدس يمر من العواصم، فإن البعض اختار أن يمر طريقه عبر ضرب استقرار ونفوذ دول أخرى، على رأسها المغرب، في محاولة لإعادة رسم خرائط إقليمية تتناسب مع حسابات ضيقة، تحركها قطر والجزائر تحت مظلة دعم غزة ومناهضة التطبيع.
في باريس، تم تنظيم وقفة أمام معهد العالم العربي، تقودها ريما حسن، الوجه اليساري المدعوم من الجزائر، في ما بدا أنه نشاط تضامني مع غزة، لكنه في جوهره حملة ممنهجة ضد المغرب، تستهدف رموزه ومواقفه، وتزامنت مع تحضيرات لزيارة مسؤول فرنسي رفيع إلى الجزائر لتوقيع صفقة إدارة موانئها.
وفي الوقت الذي يُرفع فيه شعار نصرة القضية الفلسطينية، تتحرك الجزائر لتقوية موقعها في التجارة البحرية، في منافسة مباشرة مع المغرب، الذي بات رقماً صعباً في مجال اللوجستيك والموانئ.
أما قطر، فاختارت أدوات أخرى، أكثر نعومة وأشد تأثيراً، الإعلام الممول من الدوحة، وعلى رأسه قناة الجزيرة، كثف من حملاته على ميناء طنجة، قبل أن تتوسع لتشمل باقي الموانئ المغربية، مستخدماً الخطاب الديني وورقة التطبيع لاستثارة الشارع المغربي. هذا التصعيد الإعلامي تزامن مع زيارة أمير قطر إلى موسكو، حيث ناقش مشروعاً لربط بلاده تجارياً بروسيا والهند، في محاولة لإنشاء ممر بديل عن الممر العالمي المقترح عبر المغرب، المعروف باسم IMEC. الرسائل واضحة: ما يُبث للجمهور حول فلسطين لا يعكس حقيقة التحركات على الأرض، والتي تركز أساساً على خلق
كل هذه الأحداث لا يمكن قراءتها إلا ضمن سياق أوسع، عنوانه الصراع على الممرات التجارية الجديدة ومناطق النفوذ الاستراتيجي. المغرب، الذي يستعد لإطلاق مشروع أنبوب الغاز مع نيجيريا، وجد نفسه في مواجهة مقترح قطري مضاد، عُرض سريعاً على أبوجا لتمويل خط غاز بديل يمر عبر الجزائر. وبهذا، تحاول الدوحة الحد من قدرة المغرب على التحول إلى بوابة الغاز الإفريقي نحو أوروبا، وهو ما يتعارض مع مصالح قطر كمصدر رئيسي للغاز.
يتقاطع هذا الصراع الاقتصادي مع رهانات سياسية دولية. الولايات المتحدة تسابق الزمن لطيّ ملف الصحراء الغربية لصالح مقترح الحكم الذاتي المغربي، ضمن رؤية كبرى لإعادة تشكيل النظام الإقليمي على أسس جديدة.
المغرب، الإمارات، وأذربيجان يشكلون رؤوس مثلث هذه الخطة، كل منهم في موقع جغرافي استراتيجي، يشكل جسراً لربط إفريقيا، الخليج، وآسيا الوسطى، في مواجهة النفوذ الصيني والروسي. ومن هنا، فإن إنهاء نزاع الصحراء سيكون بمثابة تتويج لدور مغربي جديد في خريطة العالم.
لكن هذا السيناريو يقلق قطر بشدة، أولاً، لأنه قد يدفع دولاً أخرى للالتحاق بمبادرة إبراهيم، وبالتالي تسريع مسار تسوية فلسطينية شاملة تقوض دور الدوحة كوسيط وحيد، ثانياً، لأن نجاح المغرب في غرب إفريقيا وغرب أوروبا، سيخلق له قاعدة نفوذ اقتصادية صلبة، تجعل من الفوسفاط والغاز والمعادن النادرة سلاحاً جيو-اقتصادياً ينافس الغاز القطري نفسه، وثالثاً، لأن النموذج المغربي، القائم على الملكية والديمقراطية والحكم الذاتي، يناقض كلياً سردية الخلافة والتيارات الإسلاموية التي تغذيها قطر في العالم العربي.
تخشى قطر أن يتحول المغرب إلى منصة مكتملة السيادة، قادرة على الدفاع عن مصالحها في وجه الحملات الإعلامية والضغوط السياسية، وقادرة على الشراكة الاستراتيجية مع القوى الكبرى دون الحاجة لوساطة.
كما تخشى أن يُسحب البساط من تحت قدميها، في حال فقدت ورقة “الدم الفلسطيني”، التي لطالما وظفتها كدرع سياسي يحميها من تقلبات الإقليم، ويمنحها دوراً يفوق حجمها الطبيعي.
بكل هذه الخلفيات، يبدو أن استهداف المغرب لم يكن خياراً محسوباً، بل مغامرة محكومة بالرهبة من مستقبل لم يعد تحت السيطرة. والمفارقة أن المغرب، الذي اتخذ موقفاً متزناً خلال أزمة حصار قطر، لم يكن خصماً لسياسات الدوحة، بل شريكاً محتملاً في بناء منظومة تعاون بديلة. لكن قطر اختارت معاداة المنطق، والانخراط في صراعات خاسرة، بدل أن تستثمر في شراكة رابحة.
من المؤسف أن تتحول فلسطين من قضية جامعة إلى ورقة تستعمل في تصفية حسابات إقليمية. ومن المؤسف أكثر، أن يُستخدم الدم الفلسطيني لإضعاف دول عربية طامحة، فقط لأن صعودها يشكل تهديداً لصورة نمطية أرادت قطر أن تحتكرها. المغرب اليوم لا يطلب من أحد أن يقف إلى جانبه، لكنه لا يقبل أن يُطعن من الخلف تحت غطاء النضال، وهو يعلم جيداً كيف يميز بين مناصرة فلسطين، ومن يستعملها لتصفية حسابات ضيقة.
تنويه خاص : مبادرات المجاملات تتناثر .. هل هناك حقا رغبة للاعتراف الصريح بمغربية الصحراء ..