خرج من حيٍ قاسٍ بمدينة برلين مُنتعلاً حذاءه الرياضي ليصل به إلى أعلى المراتب في كرة القدم الاحترافية. حين سجَّل ابن المهاجرين التونسيين لأداء الخدمة العسكرية، التقط الجيش الألماني صورةً تذكاريةً له لتسجيل حدث انضمامه إلى صفوفه. وفي حفل تكريم عُقد على شرفه، جمعته محادثاتٌ وديةٌ بأعضاء حكومة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.. فما الذي تغير؟
يقول أنيس بن حتيرة، البالغ من العمر 28 عاماً، والذي كان لا يزال عقده مع فريق دارمشتات الألماني للمحترفين سارياً حتى الشهر الماضي: “كنت نموذجاً لاندماج المسلمين في المجتمع”.
لكن مع تبني المجتمع الغربي سريعاً وجهة نظر أكثر سوداوية عن الإسلام، هوى فجأة من كان يوماً بطلاً رياضياً من قمة نجاحه بعد أن استغرق وقتاً طويلاً لبلوغها!
وتثير قصة إبعاده عن فريقه وإجباره على المنفى الاختياري تساؤلاً يتردد على جانبي المحيط الأطلسي: في الأزمنة سريعة التغيّر، ما الذي يدفع المسلم ليصبح “متطرفاً”؟
“إنهم يطاردوننا”
بعد انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، واندلاع موجةٍ من الهجمات الإرهابية في أوروبا، بات الإسلام -خاصة الإسلام المحافظ- تحت مجهرٍ جديدٍ. ويتسبب الخطر الحقيقي للإرهاب جزئياً في إشعال سياسة الفحص المُشدَّد هذه. لكن التفتيش عن التطرف وراء كل حاملٍ للقرآن يُعد أيضاً اختباراً لمدى الالتزام بمبادئ الحرية الدينية.
هذا واقع حقيقي حتى في ألمانيا، البلد الذي استقبل أكثر من مليون شخص، ومعظمهم مسلمون لاجئون، والذي نعته ترامب بالدولة “الساذجة”؛ لعدم إدراكها مخاطر الإسلام المتطرف.
وفي ظل مواجهةٍ محتملةٍ لانتخابات إعادة أصعب من المتوقع، ورد فعلٍ شعبيٍ عنيفٍ إزاء عدم التدقيق والفحص المشدد للمهاجرين، دعت ميركل إلى فرض حظر جديد على النقاب وبدأت تستخدم بشكل أكثر علنية مصطلح “الإرهاب الإسلامي”.
وفي ظل المناخ الحالي، يمكن للسمعة السيئة للتطرف أن تمتد، لتطال حتى أكثر الرموز المحبوبة في المجتمع.
يقول بن حتيرة، في أول مقابلة موسعة معه منذ المواجهة الحاسمة مع فريقه: “إنهم يطاردوننا. لقد بات المسلمون هم اليهود الجدد”.
“أن تصبح أقدر على مواجهة الإساءات”
خلال مباراةٍ وديةٍ مع فريقه التركي الجديد “غازي عنتاب سبور” ضد نادٍ من بيلاروسيا، كان بن حتيرة يجري في الملعب عندما داس لاعبٌ منافسٌ على حذائه، فانخلع من قدميه. صاح بن حتيرة بالألمانية متحدثاً للحكم الذي لا يفهم كلامه: “ألا ترى هذا؟”. بعدها بدقائق، احتسب الحكم خطأً ضده.
ليصيح مرة أخرى: “ماذا فعلت الآن؟!”.
لم يكن هذا العام موفقاً بالنسبة لأنيس بن حتيرة.
اعتاد ابن الطبّاخ التونسي، الذي حصل على وظيفةٍ بالقطاع الفرنسي غرب برلين في سبعينات القرن الماضي، أن يكون “مهمَّشاً” بين الآخرين. لقد نشأ بينما يسمع الأطفال وآباءهم وهم ينعتونه بـkanake، وهي سُبَّة ألمانية تُطلَق عادة على الأشخاص ذوي الأصول التركية أو العربية.
يقول بن حتيرة: “تعتاد الأمر وتصبح أكثر قدرةٍ على مواجهة الإساءات”.
قاوم بن حتيرة الهجوم ضده بكرة القدم، ليصبح نجماً في أثناء فترة مراهقته. تنقَّل بين العديد من أندية المحترفين في مدن برلين وهامبورغ وفرانكفورت. ووقَّع عقداً مع فريق دارمشتات خلال العام الماضي؛ إذ كان الفريق يسعى للمشاركة في أقوى مسابقات كرة القدم الاحترافية- الدوري الألماني.
كان لنشاطه الخيري مع الأطفال الفقراء ببرلين الفضل في حصوله على جوائز وطنية واكتسابه شهرة كبيرة. كما اعتاد زيارة أقسام سرطان الأطفال في المستشفيات.
لقد كان لاعب كرة القدم أحد الوجوه التي ظهرت في فيديو يحتفي بالتعدد الوطني والذي حمل اسم “أنا أيضاً ألماني”.
دفع المال والشهرة بن حتيرة، الذي يصف نفسه بأنه “ليس مسلماً متديناً في حقيقة الأمر”، لاستعادة إيمانه مرة أخرى. كما أثار الجدل والغضب الشعبي عندما انتقد بشكل علني معاملة إسرائيل للفلسطينيين خلال حرب 2014 في قطاع غزة.
تواصل بن حتيرة مع منظمة “أنصار” الدولية، وهي منظمة إسلامية محافظة أسسها مغني راب ألماني تحوّل إلى الإسلام يُدعى جويل كايسر. إن هذه الجماعة شديدة التدين، وترتدي غالبية النساء التي تعمل هناك الحجاب، ويميل الرجال الذين يعملون بالمنظمة إلى إطلاق لحاهم لدوافعٍ دينيةٍ.
يقول بن حتيرة إن ما جذبه في المجموعة هو “شفافيتها” وإنها تعمل بفريقٍ صغيرٍ، ما يسمح بإنفاق جزءٍ كبيرٍ من تبرعاتها على الأعمال الخيرية.
والأهم من كل ذلك، هو أنها تعمل في المناطق التي تخشى المؤسسات الخيرية الأخرى الدخول فيها، مثل الصومال وسوريا.
في الصيف الماضي، ساهم بن حتيرة في تمويل عمل منظمة “أنصار” لبناء محطة معالجة مياه الشرب في قطاع غزة. وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي 2016، سافر علناً في رحلة مع المجموعة إلى غانا.
لم يكن يعرف بن حتيرة أن ارتباطه بالمؤسسة سيكلفه وظيفته وربما مستقبله المهني.
الارتباط بالمؤسسة الخيرية
لم يخجل بن حتيرة من عمله مع المؤسسة الخيرية؛ إذ كان يعبر عن دعمه لمؤسسة “نصار” على شبكات التواصل الاجتماعي. لكن سرعان ما لاحقه النقد.
تساءل العديد من السياسيين على المستوى المحلي والقومي؛ كيف يمكن لشخص يجسد نموذجاً للمسلمين يُحتذى به أن يتحالف مع مجموعة محافظة كهذه؟ وبدأت وسائل الإعلام الألمانية تنقل تصريحات على لسان مصادر استخباراتية تفيد بأن المؤسسة الخيرية قدمت تمويلات لمسلحين.
لكن بعد أن رفعت المؤسسة دعوى قضائية ضد التشهير بها، تراجعت العديد من الصحف عن المزاعم التي نشرتها. ولا توجد أية أدلة على الإطلاق تفيد بأن منظمة “أنصار” قد موّلت الإرهاب يوماً.
لكنها فعلت أشياء أخرى؛ فقبل عامين عقدت المنظمة فعالية لجمع الأموال، ألقى خلالها عددٌ من السلفيين خطباً دينية. كان من بينهم بيير فوجل، الألماني المثير للجدل الذي تحوَّل إلى الديانة الإسلامية ودعا إلى إقامة صلاة جنازة شعبية لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن بعد مقتله في باكستان.
علّّق بن حتيرة على الموضوع قائلاً: “هل كانوا دعاة كراهية؟! يتوقف هذا على تعريفك لكلمة (كراهية).على كل حال، لقد توقفوا عن فعل هذا. لم يقيموا مزيداً من الفعاليات معهم”.
بعد الحديث مع أجهزة الأمن الألمانية، أوقفت مؤسسة “أنصار”، طواعيةً، تعاملها مع الأشخاص الذين كانوا مسؤولين عن جمع الأموال. لكن بالنسبة للعديد من الألمان -بمن فيهم أجهزة الاستخبارات- فقد أظهرت المجموعة وجهها الحقيقي.
يكرههم المتطرفون.. والاستخبارات!
قال مسؤولو استخبارات ألمان رفيعو المستوى -تحدثوا بشرط عدم الكشف عن هويتهم؛ لمناقشة معلوماتٍ سريةٍ- إنه لا يوجد أي دليلٍ على أن مؤسسة “أنصار” قد حثت على العنف مطلقاً. لكنهم وصفوا المؤسسة الخيرية بـ”المتطرفة”، في إشارة إلى الفهم المتشدد للإسلام الذي تتبناه المجموعة. علاوة على هذا، يقول المسؤولون إنهم يتشككون بشدة في “صلاتها” بمناطق الحرب التي تعمل بها.
لكن حجم الأدلة ضدها لا يزال غير واضح. تعد “أنصار” مؤسسة خيرية قانونية في ألمانيا. يقول مسؤولون إنه لا توجد اتهامات موجهة بحقها.
وتقول أجهزة الأمن إن من بين أكثر المزاعم التي تُدين المجموعة، أنها تُدير عيادة طبية في محافظة إدلب بسوريا، حيث تفرض جماعات تابعة لتنظيم القاعدة سيطرتها. لكن هذه المزاعم مبنية على معلومات عُثر عليها “على الإنترنت” ولم يتمكنوا من التحقق منها بشكلٍ مستقلٍ. وتنكر “أنصار” أنها تدير عيادة هناك، وتصر على أنها لا تتعاون مع مسلحين.
وفي إفريقيا، أنشأت مؤسسة “أنصار” دور أيتام للمسلمين والمسيحيين من ضحايا تنظيم بوكو حرام، كما تموّل مستشفى في مدينة حلب المُدمرة، حيث تتعاون مع أصحاب الخوذ البيضاء (منظمة دفاع مدني سورية)، وفقاً لما قاله مدير مؤسسة “أنصار” كايسر.
وزوَّدت المؤسسة المناطق الأكثر تضرراً بسبب الصراعات بشبكاتٍ لتوزيع المياه النقية والغذاء. وفي الصومال، تقول المنظمة إنها تعاونت مع الجماعات المدعومة من الولايات المتحدة لتوزيع المساعدات.
يقول كايسر: “يكرهنا المتطرفون”.
وأشار تقرير استخبارات ألماني حديث صادر عن جهاز الاستخبارات المحلي في ولاية نوردراين-فيستفالن إلى أن منظمة أنصار ساهمت في بناء مساجد ببعض المجتمعات التي تعمل بها. وشجبت المنظمة هذا التقرير واعتبرته يحمل معايير مزدوجة.
وأضاف كايسر: “إذا بنى المسيحيون كنيسةً، فلن ينبس أحد بكلمة. لكن إذا فعل المسلمون هذا، سينتهي بهم المطاف في تقريرٍ استخباراتيٍ”.
كبار الرياضيين قدوة لغيرهم
ومع ذلك، يقول منتقدو علاقة بن حتيرة بالجمعية الخيرية إنّها غير صائبة أخلاقياً، في ضوء موضعه كقدوة في مجتمعه.
وفيما تزايد الجدل حول الأمر، امتلأت صفحته على موقع فيسبوك بالمؤيدين والكارهين. وفي أحد النقاشات على الصفحة، وصف أحد المنتقدين شاباً مسلماً يؤيد بن حتيرة بـ”الجهادي”، فرد عليه الشاب واصفاً إياه بـ”الخنزير الصهيوني”.
ضغط أحد مديري صفحة بن حتيرة زر “إعجاب” على الرد الأخير، وهو ما يقول اللاعب إنّه حدث “عن طريق الخطأ”، وقد أُزيل الإعجاب فوراً. لكن المستخدم الذي وُجِّهَت إليه هذه الإهانة التقط صورةً للحدث قبل إزالة الإعجاب، ونشرها عبر الإنترنت، ووصف بن حتيرة بمعاداة السامية.
أشعلت الحادثة الجدل الدائر بالفعل حول علاقة بن حتيرة بمنظمة “أنصار”. وخرج عدة سياسيين -ومن بينهم عمدة مدينة دارمشتات بولاية هسن الألمانية- لإدانة تصرُّف اللاعب.
وقبل 3 أسابيع، وزَّع معارضون مجهولون في أثناء مباريات نادي دارمشتات منشورات تدين ارتباط بن حتيرة بمنظمة خيرية “متطرفة”.
وفي تطوُّرٍ آخر، تواصلت الشركات الراعية للنادي مع الإدارة وطلبت تفسيراً للوضع، بحسب مسؤول على معرفة وثيقة بالموقف الراهن. وردَّ النادي بانتقادِ منظمة “أنصار” علناً والتلميح بأن بن حتيرة يتعامل مع منظمة أخرى، مع التلميح أيضاً بأن ذلك “شأن خاص” باللاعب فقط. لكن في 24 يناير/كانون الثاني 2017، في أثناء اجتماعٍ أخيرٍ مع اللاعب، وجَّه مسؤولو النادي لبن حتيرة إنذاراً أخيراً: إما أن يقطع صلته بالجمعية الخيرية وإما أن يغادر النادي.
وبناءً على ذلك، رحل بن حتيرة، متمسكاً بحقه في الحرية الدينية ولعدم توافر أدلة تدين منظمة “أنصار” بالتطرف.
ومن جهة أخرى، رفض النادي التعليق على الحادثة، لكن السياسيين الألمان امتدحوا ردّ دارمشتات السريع على المشكلة.
وقال وزير داخلية ولاية هسن، بيتر بوث، في تصريحٍ له: “لا يمكن السماح للاعب كرة قدم محترف، مثل بن حتيرة، بارتباط اسمه مع منظمات متطرفة يضعها جهاز الاستخبارات تحت المراقبة. تقع مسؤولية خاصة على عاتق كبار الرياضيين. فهم يمثلون قدوة لغيرهم، وخاصةً صغار السن، الذين يميلون إلى التطبّع بطباع أبطالهم”.
ملجأ للمسلمين أوروبيي المنشأ
انتشرت أنباء إلغاء عقد بن حتيرة في أوساط المجتمع المسلم في ألمانيا. لكن ظلّ الجانب الأكبر من المنظمات الإسلامية الكبرى صامتاً، ويبدو أن هذه المنظمات لم ترغب في خوض جدال حول التعصّب الديني في هذه الأوقات الحرجة. لكن مغنّي الراب المشهورين، والمنحدرين من أصول عربية وتركية، دعموا اللاعب بشكلٍ علني. ومنح ذلك معجبي بن حتيرة من الشباب المسلمين دليلاً إضافياً على تعرضه للتمييز العنصري.
وكتب شابٌ على صفحة بن حتيرة: “إذا اتهمتم أنيس بالإرهاب، فكلنا إرهابيون!”.
على أثر تلك الأحداث، قال بن حتيرة إنّه أصبح موصوماً. فلم يُرِدْه أي نادٍ ألماني.
واستمر ذلك حتى تلقَّى اتصالاً من إلياسا سومي.
وإلياسا سومي هو ألمانيّ-تركي وقائد فريق كرة القدم المحترف غازي عنتاب سبور في تركيا ذات الأغلبية المسلمة. تابع سومي ورئيس ناديه الجدل الدائر في ألمانيا حول بن حتيرة. ورأت إدارة النادي أن تلك فرصةٌ ذهبيةٌ للتعاقد مع لاعب موهوب ودعْم أخ مسلم في الوقت ذاته.
وبانضمامه إلى غازي عنتاب سبور، تعاقد بن حتيرة مع نادٍ هو أشبه بملاذٍ للمسلمين أوروبيي المنشأ الذين لم تعد بلادهم تسعهم.
وقال أحد لاعبي النادي -اشترط إبقاء هويته سرية- إنّ السلطات الأوروبية احتجزت أحد أصدقائه، وهو مسلم محافظ مقيم بالنمسا، بعد هجوم ديسمبر 2016 الذي نفذه إسلامي متطرفّ في سوق عيد الميلاد بمدينة برلين وأودى بحياة 12 شخصاً.
وقال اللاعب: “إذا كنت مسلماً ذا لحية، تصبح إرهابياً. هذا ما يفكِّرون هم فيه، وهذا ما نشعره نحن”.
ومن جهة أخرى، لا يندم بن حتيرة على قرار مغادرة النادي الألماني، فقد قال وهو في موقع تدريب ناديه الجديد قرب البحر المتوسط، على بُعد 2900 كيلومتر من مسقط رأسه شمال برلين: “أرادوا مني الابتعاد عن مجموعة من فاعلي الخير دون الاستناد إلى دليلٍ واحدٍ ضدهم”.
وقال: “كان هذا أهم من حياتي المهنية”.