بقلم : محمد سليمان / مدون
حياة الإنسان غنية ولا نهائية على قصر مداها وسرعة نفاد أجلها، زاخرة في معانيها لو تأملنا ذلك ملياً، وعريضة بقدر ما بحثنا في تفاصيلها ونظرنا في طياتها.
كنت أتردد على إسطنبول قبل يومنا هذا بصفة سائح، أرى الأمور بعين الغريب العابر، ولم أحظَ بعيش الحياة على شاكلة أهل المدينة، كمقيم ومُستقر. حالفني الحظ في غير مرة أن أرافق أهل المدينة، لكن هذا أبداً لم يُشبع رغبتي في استكشاف معالم حياة المدينة.
وجب التنويه لملاحظتين قبل الشروع في تفاصيل الحكاية. بداية هذه تجربة شخصية، لا تعبّر إلا عمّا أراه، وأفهمه بشخصي، قد تجتمع وجهة نظري مع بعضكم، وفي حال اختلفنا فهذا بالطبع ليس إلا تأكيداً على اختلاف البشر في نظرتهم للأمور المحيطة بهم وتفاعلهم مع الأحداث التي يعيشونها. الأمر الثاني والأهم، العنوان يوفّر كل الجهد من وراء النقاش الطويل حول التجربة التركية، إسلامية كانت أم علمانية، فليس هذا محور تدوينتي واهتمامي هنا. نعم، لا مجال للانفكاك عن النقاش السابق، وكل التفاصيل تخدم البحث في نقطة الاشتباك تلك، لذلك فالذي يجب أن يعرفه القارئ الكريم أني بوصفي للحالة الإيمانية داخل مساجد تركيا لا يعتبر ميلاً للنفي أو الإثبات في مسألة (الإسلامية والعلمانية).
المساجد في كل مكان
هذه حقيقة يمكن أن يلحظها كل زائر وأكثر منه المقيم في إسطنبول، فالمساجد موجودة في كل مكان تقريباً وبكثرة، لا أتذكر أني دخلت أحد الأحياء في هذه المدينة إلا ووجدت فيها مسجداً، بوتيرة أعلى بمناطق تقطنها فئات عُرف عنها الالتزام دينياً. مختلف الأحياء، الحارات، والمناطق، حتى الأزقة داخل الأسواق كلها عامرة بالمساجد وروادها. أكثر من ذلك، معظم المطاعم والمقاهي يكون فيها زاوية للصلاة على الأقل إن لم يكن مُصلى مُعدّ بشكل كامل داخلها.
ستبدو هذه الملاحظة غير ذات أهمية لما يتعلق بالقلب وأحواله، غير أن عاملي الجغرافيا والمكان لهما أهمية في سهولة الوصول وكثرة الدخول للمساجد والمصليات، مما يقوّي الصلة ويعظّم التجربة الروحانية في الحيّز المكاني (المسجد).
لكل مسجد بصمته
هوية المسجد متعدية لصورته الهندسية وشكله المعماري، لكل مسجد بصمته في إسطنبول. بصمة شاهدة على مكانة هذه المدينة، بصمة فيها من التاريخ، الروحانية، والعظمة والحياة. عندما تتجول في مسجد الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- فلا شك أنك تستحضر كل معاني السكينة والصفاء، والقُرب.
في مسجد محمد الفاتح، أنت في بقعة حيّة، فيه حركة وحياة مستمرة، فيه يتجسد اجتماع الأمة.
وقفات، حملات، مسيرات للتضامن مع المسلمين في المشرق والشرق الأقصى. أما في مسجد السلطان أحمد وآيا صوفيا، فأنت أمام حالة مختلفة، تعيش التجربة كأنك سائح تتعرف على حضارة عريقة كانت لها بصمة فارقة في تاريخ الإنسانية. في مسجد السُّليمانية يتجسد الجمال، المسجد من الداخل بأنواره وألوانه الداكنة، وساحة المسجد المُطلّة على القرن الذهبي ومضيق البوسفور. وفي كل المساجد شواهد تاريخية لا حصر لها، كل مسجد يترك بصمته في أرواحنا وذاكرتنا.
الخشوع الذي لا يعرف اللغات ولا يعترف بحدودها
في رمضان يكثر الحديث والنقاش بين الشباب العربي حول صلاة التراويح في إسطنبول، وسرعة إتمام الصلوات وعدم الخشوع فيها.
تابعت الحديث في أكثر من رمضان من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وكانت بعض المداخلات عبارة عن سخرية وتهكّم على الأتراك وكيفية صلاتهم. امتعضت من طريقتهم في التعبير والكلام، غير أن أثر الكلام تسلل إلى ذهني، ووصلت لقناعة أن تحصيل الجو الروحاني في مساجد إسطنبول أمر متعسر، على عكس ما كنت أظنه قبل ذلك من خشوع قلب الأعجمي للقرآن أكثر من العربي.
خاب أملي في عيش تجربة إيمانية جديدة، صحيح أن الإسلام ثابت في قلبي، لكني كنت أبحث عن درجة أرقى في سلم التزكية والروحانية. لا أذكر متى خشع هذا القلب المُثقل بهموم الحياة المادية، الغارق في متاهات الحداثة وأزماتها.
كل ذلك تحطم عندما دخلت مساجد إسطنبول، أقولها بكامل ثقة ويقين أن الإسلام الذي عرفته في مساجد إسطنبول كان مختلفاً من حيث الروحنيات، لم أعتد على خشوع كهذا في بلادي ولم أرَ توقيراً ولا تعظيماً لشأن الصلاة وتلاوة القرآن كهذا من قبل، أما ذكر اسم الحبيب سيدنا مُحمّد صلّى الله عليه وسلّم فتلك مسألة مختلفة عند كل من قابلتهم من الأتراك.
لم أفهم لماذا أكرمتني دموعي بكل هذا السخاء أثناء دعاء الخطيب في إحدى صلوات الجُمع، دعاء لم أفهم منه إلا حُب هذا الدين والثقة واليقين في الله. كان الإمام يُلح في الدعاء، وكانت دموعي تنساب وتزداد مع إلحاح الخطيب في السؤال والرجاء. هذه الدموع كانت بالنسبة لي هي الغيث الذي أنقذ هذا القلب من الهلاك.
أما عن الطمأنينة والسكينة فتتجلى بأبهى صورها بعد كل صلاة، حيث يجلس الإمام ومن حوله الناس في مجلس ذكر، من تسبيح وتهليل وتكبير، ثم قراءة للقرآن بصوت يتلو القرآن بشيء من الثُّقل، ثُقل الأمانة وصعوبة اللفظ العربي.
كانت جمعتي الثانية في هذه المدينة، قررت أن أصلي في مسجد السُّليمانية. المكان فيه قدر كبير من الرهبة والسكينة، أضواء المسجد وأنواره الخافتة، التصميم المعماري، الزخرفة، النقوش، السجاد، المنبر، المحراب، وكل شيء يجعلك تنظر بتمعن وتتأمل.
تدخل من باب المسجد وأنت في القرن الواحد والعشرين، قمة الانغماس في الحياة الرأسمالية والحداثة السائلة وكل ما يحط ويهين من قيمتك الإنسانية… تدخل إلى المسجد وتنخلع من كل ذلك وتعود إلى لحظة تاريخية خالدة، خالدة من حيث المكان وتصميمه، خالدة في معانيها الإيمانية والروحانية.
بينما يُرفع الأذان الثاني، يبدأ الخطيب في الصعود على درجات المنبر بتأنٍّ وهدوء، يقف عند كل درجة ويتمتم بكلمات وينظر إلى السماء، ثم يعيد الكرّة ويصعد درجة بعد أخرى.
تقول لي د. هبة رؤوف عزت وأنا أصف لها هذا المشهد المُهيب: عندما نستحضر معنى الوقوف على منبر رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم). الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. لا نملك إلا التكبير أمام ما تشهده الأعين، فوربي ما تصوت أن أحظى بمتعة قلبية كهذه وأنا أشاهد الخطيب وهو يصعد درجات المنبر، ألهذا الحد يتمثل حُب هذا الدين وتعظيمه!
حدثتني د. هبة أنها دخلت مسجداً في تركيا يوماً لأداء صلاة الجمعة، ثم فجأة استغربت أن الخطبة ليست بالعربية، ولاحقاً استغربت من استغرابها أصلًا. لكن الشاهد في القصة أنه عند دخولها للمسجد فكّرت في جدوى وجودها وهي لا تفهم التركية. ثم خرجت من الصلاة وهي على قناعة أنها أكثر خطبة جمعة خشعت فيها بحياتها، نعم لم تفهم لغة الكلام، لكنها ذُهلت من حفاوة الخطيب بالقرآن واعتزازه بالإسلام، نبرة صوته، حركات يده وطريقة أدائه، كل تلك العوامل جعلتها تتأثر بروح الإسلام التي فقدنا منها الكثير بسبب اعتيادنا اللغة، وافتقادنا للدهشة التي في قلب المسلم غير العربي.
هذا الإسلام الذي عرفته داخل مساجد إسطنبول تجربة أعادت لي الشعور المفقود، أو لعلها تجربة أتاحت لي تذوّق شيء من حلاوة الإيمان الذي لم أبلغه. أخاف من الألفة فقط، أخاف أن تفسد عليّ هذا الأمر، لكن هذا حال الدنيا فالدهشة الأولى في الغالب لا تستمر إلا إلى حين من الزمن. تبقى الذكرى والأثر، ونسأل الله الأجر والدرجة العالية الرفيعة.
أختم هذه التدوينة بأجمل ما تُختم به خطبة الجمعة في تركيا، حيث يقول الخطيب:
- اَلْحَمْدُ للهِ. اَلْحَمْدُ للهِ. اَلْحَمْدُ للهِ حَمْدَ الْكَامِلِينَ كَمَا أَمَرَ. نَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ النَّبِيُّ الْمُعْتَبَرُ. تَعْظِيماً لِنَبِيِّهِ وَتَكْرِيماً لِفَخَامَةِ شَانِ شَرَفِ صَفِيِّهِ. فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَائِلٍ مُخْبِراً وَآمِراً: {إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً}.
اللهم صلِّ وسلّم وبارك على النبي المبعوث رحمة للعالمين.