ياسين اكتاي / مستشار اردوغان
أكمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارته الجزائر، ومنها توجه إلى غامبيا ثم السنغال؛ وبذلك يكون قد أتم جولة أفريقية قادته إلى ثلاث دول، وهو الشيء الذي يكاد أن يصبح قاعدة في جولاته الأفريقية التي لا تقل عن زيارة ثلاث دول.
كانت آخر زيارة أجراها أردوغان للجزائر قبل عامين في مارس 2018، وقد زار حينها السنغال أيضًا ومالي وموريتانيا في جولة ضمت أربع دول أفريقية. وفي هذه الجولة الأخيرة زار أردوغان للمرة الأولى دولة غامبيا، في زيارة تعتبر الأولى من نوعها لرئيس تركي إلى هذه الدولة الأفريقية.
وكما تحدثنا سابقًا؛ فإن كل زيارة يجريها الرئيس أردوغان لأي دولة ينظم خلالها منتدى للأعمال يتناول الرؤى والدوافع التي ستقود العلاقات الاقتصادية بين البلدين إلى درجة أفضل. وهذا النوع من الأعمال لا يمكن أن يتصف أصلًا بأنه يجلب الفائدة لصالح تركيا فقط دون الطرف الآخر.
بل على العكس تمامًا؛ يجب أن تكون هناك مكاسب ثنائية بين كلا الطرفين من أجل مواصلة العلاقات والحفاظ عليها، وهذه هي الرسالة الأهم لهذا النوع من المنتديات التجارية أو الاقتصادية. وهذا هو الفارق بين تركيا والدول الأخرى من حيث اهتمامها بالقارة الأفريقية في الماضي والحاضر؛ فعلاقة تركيا مع أي بلد تقوم -بكل تأكيد- على إكساب هذا البلد الفائدة ذاتها التي تجنيها تركيا وبنفس الدرجة.
“للأسف؛ هناك العديد من الدول الإسلامية تبدو محرومة من أدنى درجات المصالحة وحرية التعبير والمشارة السياسية. والجزائر بلد يواصل عمليته السياسية بنضج مهم في هذا الصدد، ويمكن القول إن هذا النضج له حقيقةً علاقة كبيرة بالدروس المستخلصة من التجارب المؤلمة التي عاشتها البلاد في الماضي”
إن وجود الجزائر في هذه الجولة الأفريقية يكتسب أهميته من التغيرات التي طرأت على هذا البلد مؤخرًا، وموقعها المهم في المنطقة، إضافة إلى حجم التبادل التجاري بينها وبين تركيا. فمن المعلوم أن احتجاجات الميادين الجزائرية انطلقت منذ إعلان الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة -الذي حكم البلاد منذ عام 1999 وحتى استقالته العام الماضي- ترشحه للانتخابات للمرة الخامسة، وأسفر تواصلها عن تأجيل الانتخابات وتراجع بوتفليقة عن الترشح.
وبالفعل أجريت الانتخابات الرئاسية بعد فترة، وتم انتخاب عبد المجيد تبون رئيسًا للجزائر بحصوله على 58% من الأصوات في الجولة الأولى. ورغم استمرار بعض الاحتجاجات في الجزائر -نظرًا لكون تبون شخصية محسوبة على النظام السابق- فإن هناك انتخابات قد تمت، وجاء رئيس للبلاد حظي بنسبة قوية من الأصوات.
ورغم علاقته الجيدة بالطبقة الحاكمة في النظام السابق؛ فإن ذلك قد يعتبر فرصة مهمة للتوصل إلى حل وسط في المجتمع الجزائري. إنه إنجاز كبير ولا سيما على صعيد الدول العربية والإسلامية، حينما يتم تشكيل بيئة سياسية حرة من غير استبعاد تام لمطالب الشرائح الاجتماعية، ومن غير استبعاد أي أحد من المجال السياسي في الوقت ذاته.
للأسف؛ هناك العديد من الدول الإسلامية تبدو محرومة من أدنى درجات المصالحة وحرية التعبير والمشارة السياسية. والجزائر بلد يواصل عمليته السياسية بنضج مهم في هذا الصدد، ويمكن القول إن هذا النضج له حقيقةً علاقة كبيرة بالدروس المستخلصة من التجارب المؤلمة التي عاشتها البلاد في الماضي.
في الحقيقة؛ من المهم للغاية أن يتم الابتعاد عن عراقيل المصالحة السياسية، التي يمكن أن تؤدي إلى صراع عنيف أو انقلاب ينهي البيئة السياسية بشكل كامل. نعم بالطبع؛ يمكن أن تخلق الحساسية إزاء ذلك انتهازية تركز على نقطة الضعف من أجل فرض نظام استبدادي مختلف.
وبغض النظر عما قيل ويقال؛ فإن الجزائر الآن تقطع خطوات هامة في طريق الديمقراطية والوطنية. وبالتأكيد ليس من الضروري أن يحدث كل شيء يصدر عن أحد طرفيْ الصراع السياسي على حساب الطرف الآخر، بل المهم والضروري هو ألا يتم تجاهل طرف من الأطراف، وأن يكون هناك حل وسط ونقطة التقاء.
وهناك العديد من الأخبار تبعث الأمل في أن الرئيس الجزائري الجديد تبون يسعى نحو رفع سقف جوّ هذه المصالحة والمشاركة السياسية، من قبيل إعلان عفو عام وترتيبات سياسية جديدة. لقد تابع الرئيس أردوغان جميع التطورات في الجزائر عن كثب، ولقد أبدى احترامه وتقديره الكبيرين لإرادة الشعب الجزائري وخياره، وحين الإعلان عن نتائج الانتخابات بادر بالاتصال بالرئيس المنتخب الجديد ليكون أول رئيس يقوم بتهنئته.
تتمتع الجزائر بإمكانيات مهمة للغاية في شمال أفريقيا، من خلال جيوسياسيتها وثروتها البشرية والمادية. كما أنها تعتبر ثالث أغنى دولة في أفريقيا من حيث احتياطي النفط بعد ليبيا ونيجيريا، فضلًا عن أنها تمتلك أعلى احتياطي للغاز الطبيعي بعد نيجيريا. وتفوق جغرافيا الجزائر ثلاثة أضعاف مساحة تركيا، وبعدد نفوس 42 مليون نسمة تعادل نصف عدد سكان تركيا.
“إن الجزائر -كدولة لها هذه الحدود الطويلة مع ليبيا- لن تتحمل ولن تسمح بما يجري من احتلال وإدارة بالوكالة لهذا البلد. وعلى أولئك الذين استغلوا ذلك الفراغ لتأسيس احتلالهم أن يحسبوا حسابًا جديدا من الآن فصاعدًا؛ فقد عادت الجزائر وستكون حاضرة بنفس المستوى الذي عليه تركيا”
بالطبع ليس هذا وحده هو أهم ثروة بالنسبة للجزائر؛ إن تمتعها بنسبة كبيرة من الشباب يعتبر موردًا بشريًّا ضخمًا بالنسبة للجزائر، في حال تمت إدارة ذلك بشكل صحيح. وإن وجود هذه النسبة الشبابية يعتبر مصدرًا وفيرًا لسوق العمل، فضلًا عن كونه فرصة كبيرة للغاية لإضفاء الطابع المؤسساتي التعليمي الجيد. وهذا -بحد ذاته- يعتبر أمرًا مهمًّا للغاية، ويدعو بكل تأكيد إلى تقييمه على صعيد التعاون في مجال التعليم بين الجزائر وتركيا.
إن الشعب الجزائري يعتبر المثال الأكثر استثنائية من حيث الحفاظ على هويته وأصالته ضد الاستعمار، عبر النضال والكفاح والمقاومة النبيلة. ولا يمكن تصور أي صعوبة يمكن أن تقف في وجه الدولة حينما تكسب هذا الشعب إلى جانبها، وبمعنى آخر حينما تقف هي إلى جانب شعب من هذا النوع.
من ناحية أخرى؛ هناك الملف الليبي أيضًا الذي كان على جدول أعمال زيارة الجزائر، ويمكنني القول بأن انشغال الجزائر بالأزمة الداخلية وقتا طويلا ساهم -إلى حد بعيد- فيما وصلت إليه ليبيا الآن. وإلا فإن الجزائر -كدولة لها هذه الحدود الطويلة مع ليبيا- لن تتحمل ولن تسمح بما يجري من احتلال وإدارة بالوكالة لهذا البلد. وعلى أولئك الذين استغلوا ذلك الفراغ لتأسيس احتلالهم أن يحسبوا حسابًا جديدا من الآن فصاعدًا؛ فقد عادت الجزائر وستكون حاضرة بنفس المستوى الذي عليه تركيا.