يعيش الاتحاد الأوروبي وضعا جيوسياسيا خاصا ابتداء من اليوم السبت بعد انسحاب بريطانيا من صفوفه بعد 47 سنة من التعايش الصعب، مما يثير تساؤلات حول ملفات كبرى مثل الهجرة ومكافحة الإٍهاب والوحدة النقدية.
ويعتبر انسحاب بريطانيا “البريكسيت” الأول من نوعه في تاريخ الاتحاد الأوروبي، حيث سيصبح ابتداء من السبت مكونا من 26 عضوا بدل 27. ويتزامن تطبيق البريكسيت والنقاش الحاد وسط الأعضاء بزعامة فرنسا وألمانيا حول التحديات التي تواجه الاتحاد الأوروبي لاسيما في ظل تشكل خريطة جيوسياسية جديدة بفضل عالم متعدد الأقطاب الذي يتبلور في الوقت الراهن نتيجة ظهور دول إقليمية مثل البرازيل وتركيا ودول كبرى مثل الصين واستعادة روسيا لدورها العالمي.
وما يشغل بال الأوروبيين هو: هل سيكون انسحاب بريطانيا حافزا لتعزيز مسلسل الوحدة بين الدول الأعضاء وهي التي سبق لها معارضة الوحدة النقدية ورفض الانضمام الى فضاء شينغن أو العكس، سابقة تمهد لانسحاب دول أخرى خاصة في ظل ارتفاع قوة أحزاب اليمين القومي في عدد من الدول الأوروبية ومنها فرنسا، وهي الأحزاب التي تنادي بنهاية الاتحاد واستعادة الدول لدورها القطري أو الوطني. ويكفي أن نسبة المشككين في الاتحاد الأوروبي مرتفعة أكثر في فرنسا واليونان أكثر من بريطانيا التي صوت شعبها لصالح البريكسيت.
ويدرك الاتحاد الأوروبي أن الخروج البريطاني سيجعل الاتحاد في موقف ضعف نسبيا ويحمل تبعات جيوسياسية كبيرة للغاية. إذ سيفقد بسبب البريكسيت دولة كانت تشكل 13 في المائة من الناتج القومي الخام، وهو ما يعادل 2900 مليار دولار علاوة على كثلة بشرية تقارب 80 مليون نسمة. إضافة الى فقدان عسكرية هائلة، وهي القوة النووية والقوة البحرية بأساطيلها المنتشرة عالميا، ثم أن الاتحاد الأوروبي سيفقد صوتا يمثل حق الفيتو وصوتا دائم العضوية في مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة، وهو ما جعل جريدة لوموند الفرنسية تكتب في عدد الجمعة 31 يناير “البريكسيت، المجهول الجيوسياسي للاتحاد الأوروبي”.
ويدرك الأوروبيون أن بريطانيا الشريك الأوروبي ليس بالحليف الدائم لاسيما في ظل رئيس الحكومة الحالي بوريس جونسون والراغب في ترك بصمات واضحة في التاريخ البريطاني بإعادة رسم التوجه العام للبلاد في الساحة الدولية. وبالتالي سيطبق جونسون الوصية التاريخية للرود بالمرستون الذي ترأس الحكومة منتصف القرن التاسع عشر وكان وزيرا للخارجية قبل ذلك بتحديده الشعار البريطاني للدبلوماسية “ليس لدينا حلفاء دائمين ولا أعداء أبديين، لدينا مصالح دائمة وأبدية، وهو واجب يجب اتباعه”.
في الوقت ذاته، يعتقد الأوروبيون أن بريطانيا برغماتية ولهذا ستحافظ على أكبر وأقرب شريك لحدودها وهو الاتحاد الأوروبي مهما راهنت على الولايات المتحدة أو إعادة تشكيل مجموعة الكومنولث التي تتزعمها. إذ ستضطر الى التحاور والتنسيق مع الأوروبيين في ملفات مثل مكافحة الإرهاب والهجرة والقضايا الكبرى مثل الملف الإيراني والسوري والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي لأن العالم دخل مرحلة تعدد الأقطاب، وهو معطى يفرض برغماتية حقيقية مهما كانت رغبة بوريس جونسون في إعادة إرساء الاستثناء البريطاني عالميا.