اسماعيل كايا / اسطنبول
دفع الجيش التركي طوال الأيام الماضية بمئات الدبابات والعربات العسكرية إلى داخل إدلب اعتبرت “أضخم” تعزيزات عسكرية، وذلك في إطار المحاولات لوقف تقدم النظام السوري إلى عمق إدلب إما من خلال الطرق الدبلوماسية التي فشلت حتى الآن، أو الضغط العسكري الميداني والمناورة كما يجري منذ أيام، أو من خلال ما لوح به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وهو القيام بعملية عسكرية واسعة ضد النظام في إدلب.
وفي ظل فشل الخيار الأول – الحل الدبلوماسي- حتى الآن، وعدم نجاعة الخيار الثاني -المناورة العسكرية-، يبدو أن الخيار العسكري المباشر بات الفرصة الأخيرة لتركيا لمنع دخول النظام إلى وسط إدلب إن كانت عازمة على ذلك، حيث بات النظام يبعد عدة كيلومترات فقط عن مدينة إدلب في قلب المحافظة، ويواصل تقدمه بسرعة، في ظل دعم عسكري روسي واسع ومباشر، وهو ما وضع تركيا في حالة سباق مع الزمن وسط خيارات معقدة.
وبعد أن أبدت تركيا عزيمة سياسية وعسكرية غير مسبوقة في إمكانية الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع النظام السوري، ووقعت بالفعل عدة حوادث واشتباكات عسكرية بين الجانبين في الأيام الأخيرة، إلا أن خطر الصدام العسكري مع روسيا الذي سيؤدي بدوره إلى انهيار العلاقات بين أنقرة وموسكو يعتبر الهاجس الأكبر لدى تركيا سياسياً وعسكرياً واقتصادياً الأمر الذي يقلص الخيارات التركية ويزيدها تعقيداً.
تعزيزات هائلة
منذ أيام يرسل الجيش التركي أرتالا متتابعة من قواته إلى إدلب، وتشير إحصائيات إلى أن هذه القوات من حيث العدد والعدة تعتبر الأضخم التي يدخلها الجيش التركي إلى سوريا منذ بدء الأزمة السورية، وأكبر من تلك التي استخدمها الجيش في عملياته السابقة في سوريا ومنها “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام” غرب وشرقي نهر الفرات.
وفي ظل عدم وجود إحصائيات رسمية عن عدد هذه القوات نشرت وكالة الأناضول الرسمية سلسلة أخبار متفرقة عن إرسال مئات الآليات العسكرية، فيما يقول نشطاء إن ما لا يقل عن 700 عربة عسكرية تركية دخلت إلى إدلب منذ بداية الشهر الجاري، في حين أحصى المرصد السوري لحقوق الإنسان دخول 850 عربة منذ الثاني من الشهر الجاري.
وشملت هذه التعزيزات دبابات ومدافع ومدرعات وناقلات جنود وعربات مصفحة وتحصينات عسكرية وأطنانا من الذخيرة المتنوعة، وأعدادا كبيرة من عناصر الجيش لا سيما قوات “الكوماندوز” الأعلى تدريبياً في الجيش التركي. وبينما وصفت وسائل إعلام تركية بأن هذه القوات تحمل طابعا “هجوميا” وليس دفاعيا فقط، لفتت مصادر مختلفة إلى أن هذه التعزيزات شملت لأول مرة أنظمة رادار وتشويش، وسط أنباء عن إدخال أنظمة دفاع جوي إلى داخل إدلب، بعد أن أكد أردوغان قبل أيام نشر منظومة الدفاع الجوي التركية “حصار” على الحدود مع سوريا.
هذه التعزيزات لم يقتصر إدخالها إلى المناطق الحدودية، وإنما تركز في محيط وسط إدلب وجنوبها، وشرع الجيش التركي بإقامة نقاط تمركز وبناء تحصينات، من دون أن تتضح الاستراتيجية التركية المتبعة في نشر هذه القوات، لكن المؤكد أنها المرة الأولى التي يدخل فيها الجيش التركي هذه الأعداد من القوات والتجهيزات العسكرية بشكل أحادي وبدون التنسيق مع روسيا والنظام، وذلك بعد أن كانت كل تحركات الجيش في نقاط المراقبة الـ12 تتم بالتنسيق بناء على اتفاق أستانة.
وقف هجوم النظام
بدأ التحول في الموقف التركي في إدلب في الأسبوعين الأخيرين، فعقب إعلان أردوغان عدم التزام روسيا باتفاق أستانة وتفاهمات سوتشي، أعلن مجلس الأمن القومي التركي “البدء باتخاذ إجراءات إضافية لحماية المدنيين في إدلب”، قبل أن يعلن أردوغان إمكانية القيام بعملية عسكرية ضد النظام السوري لإيقاف هجماته ضد إدلب، ويمهله لاحقاً للانسحاب إلى حدود اتفاق سوتشي ومحيط نقاط المراقبة التركية.
ولكن على الرغم من هذه التهديدات، واصل النظام السوري بغطاء جوي روسي هجماته على إدلب، وحقق تقدماً برياً سريعاً، وتمكن من محاصرة المزيد من نقاط المراقبة ونقاط التمركز الجديدة للجيش التركي، وعلى الرغم من حصول مواجهات بالمدفعية والصواريخ – كما لم يحصل سابقاً على الإطلاق- إلا أن هذه المواجهات بقيت محدودة ولم يكن فيها الجيش التركي بموقع الهجوم، واكتفى بالرد على هجمات النظام السوري التي أدت إحداها إلى مقتل ثمانية جنود أتراك.
هذا المشهد، زاد الرؤية ضبابية، وفتح الباب واسعاً أمام أسئلة واسعة حول الهدف التركي الحقيقي من إدخال القوات إلى إدلب طالما أنها لم تقم بعمل عسكري حقيقي حتى الآن لوقف تقدم قوات النظام أو حتى منع محاصرتها من قبل النظام في مناطق ساقطة عسكرياً لصالح النظام، وهو ما يحد من قدرة الجيش التركي على التحرك لاحقاً خوفا على مصير قواته المحاصرة في المناطق التي باتت تحت سيطرة النظام.
ففي ظل سيطرة روسيا على المجال الجوي لإدلب ومحيطها، وعدم قدرة الطيران التركي على التحليق في تلك المنطقة، ومحاصرة العديد من نقاط المراقبة، وضعف تحصينات باقي نقاط المراقبة، والخشية من الصدام العسكري مع روسيا، يبدو خيار المواجهة العسكرية الواسعة مع النظام معقداً للغاية في إدلب، وهو يتناقض مع التصريحات الرسمية التي تؤكد الاستعداد لذلك.
أوساط تركية رجحت أن الجيش التركي وعقب التعزيزات العسكرية الأخيرة أكمل استعداداته لتشكيل ما وصفته بجدار صد عسكري متقدم، لم تتضح حدوده بعد، مرجحةً أن أنقرة اتخذت قراراً نهائياً بمنع النظام من تجاوز حدود معينة في إدلب وحتى الحدود التركية، في إجراء حاسم لمنع حدوث موجة لجوء جديدة إلى الأراضي التركية وبما يشمل ذلك تبعات سياسية وأمنية واقتصادية على تركيا داخلياً وخارجياً.
خيارات تركيا الصعبة
للتغلب على التحديات السابقة أرسل الجيش التركي تعزيزات عسكرية ضخمة لتقوية استعدادات الجيش التركي لمواجهة كافة السيناريوهات الممكنة، وعلى رأسها مواجهة أوسع مع النظام السوري، وهو الخيار غير المفضل لأنقرة على الإطلاق، حيث ما زال الخيار الدبلوماسي المترافق مع محاولات للضغط العسكري، هو الخيار الأول، كما أن تركيا دعت روسيا منذ بداية التوتر مع النظام إلى “التزام الحياد” وهو الطلب الصعب الذي يبدو غير واقعي على الأرض.
وفي هذا الإطار، بدأ وفد روسي، أمس السبت، بإجراء مباحثات موسعة مع المسؤولين الأتراك في أنقرة، في محاولة يعتبرها البعض “أخيرة” لمنع تدهور العلاقات بين أنقرة وموسكو حول إدلب، و”مصيرية” فيما يتعلق باتخاذ تركيا قراراً نهائياً إما بالعودة إلى التفاهمات مع روسيا أو اللجوء إلى الخيار العسكري وتحمل تبعات ذلك على جميع الأصعدة.
وكان وزير الخارجية مولود شاووش أوغلو أكد أن المسؤولين الأتراك سوف يبحثون مع الوفد الروسي الوضع في إدلب، مشدداً على أن بلاده سوف تفعل “كل ما يلزم لوقف المأساة الإنسانية هناك”، فيما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن العسكريين الروس والأتراك يحاولون تسوية الوضع في إدلب على الأرض. وكانت مصادر رسمية تركية وروسية أشارت إلى إمكانية عقد لقاء بين أردوغان وبوتين “في حال اقتضت الحاجة بناءً على نتائج مباحثات الوفد الروسي”.
نسخة معدلة من سوتشي
ومن المتوقع أن تطلب تركيا من الوفد الروسي وقفا فوريا لإطلاق النار في إدلب، وانسحاب النظام إلى حدود اتفاق سوتشي، وهو ما لا يتوقع قبوله من قبل موسكو التي تسعى للحسم العسكري والسيطرة على ما تبقى من مناطق تمر منها الطرق الدولية، فيما تهدد تركيا بالخيار العسكري لوقف تقدم النظام وطرده من محيط نقاط المراقبة، الأمر الذي يضعف الآمال بإمكانية التوصل إلى اتفاق خلال هذه الجولة.
وبالتزامن مع زيارة الوفد الروسي أكدت وزارة الدفاع التركية على أن نقاط المراقبة التركية تواصل مهامها وأنها “قادرة على الدفاع عن نفسها”، فيما أكدت مصادر في الوزارة أن أنقرة لا تخطط على الإطلاق لسحب النقاط التركية، في رسالة على ما يبدو على رفض أنقرة أي طرح روسي لتعديل حدود تفاهمات سوتشي وسحب نقاط المراقبة التركية التي باتت خلف خطوط النظام.
ورغم الخلافات المعقدة والتباعد الكبير في مواقف البلدين إلا أن الرغبة التركية في تجنب أي صدام حقيقي مع روسيا قد يؤدي إلى تخريب علاقات البلدين، ورغبة موسكو أيضاً في عدم “خسارة تركيا” تدفع باتجاه البحث عن حلول استثنائية ربما تظهر على شكل تعديل على تفاهمات سوتشي والخروج بصيغة جديدة تلبي جزءا من مطالب البلدين إلى حين العودة مجدداً إلى استحقاق مصير ما تبقى من إدلب.