اسماعيل كايا / اسطنبول
وجدت تركيا نفسها مجدداً أمام الخيار الأصعب منذ بدء الأزمة السورية، والمتمثل في ضرورة الاختيار في أسرع وقت بين الانسحاب من محافظة إدلب شمالي سوريا لصالح روسيا والنظام وتحمل الفاتورة الباهظة لهذا القرار، أو التكفل بمكافحة هيئة تحرير الشام “جبهة النصر سابقاً” وذلك من أجل التمكن من الاستمرار في الانتشار في إدلب وسحب الذرائع من النظام وروسيا وتجنب النتائج “الكارثية” لسيطرتهما على المحافظة.
وتتخذ روسيا والنظام من وجود ما تقول إنها تنظيمات إرهابية وعلى رأسها هيئة تحرير الشام مبرراً لاستمرار وتبرير الهجمات السابقة والحالية على إدلب، بدعوى مكافحة الإرهاب، وهو ما يضعف موقف تركيا أمام روسيا والمجتمع الدولي، وذلك على الرغم من تيقن أنقرة بأن هدف النظام لا يتعلق بالتنظيمات الإرهابية وإنما بإنهاء المعارضة السورية بكافة أشكالها الشعبية والعسكرية المعتدلة والمتشددة، وبسط سيطرته على كامل الأراضي السورية.
وتصنف الكثير من دول العالم هيئة تحرير الشام التي كانت تحمل سابقاً اسم جبهة النصرة التي ولدت من رحم تنظيم القاعدة على أنها منظمة إرهابية، كما صنفتها تركيا كذلك، لكنها لم تدخل في مواجهة عسكرية مباشرة معها على غرار ما فعلت مع تنظيمي “داعش” و”بي كا كا/ب ي د” في شمالي سوريا.
وفي إطار اتفاق سوتشي الموقع مع روسيا عام 2018، تعهدت روسيا بسحب التنظيمات المسلحة من منطقة عازلة بعمق 15 إلى 25 كيلومترا، كما تعهدت بفصل ما أطلق عليهم العناصر المعتدلين عن العناصر المتشددين المنتمين إلى “التنظيمات الإرهابية”.
لكن تركيا اتهمت النظام بعدم الالتزام بتعهداته بالانسحاب هو أيضاً من حدود المنطقة منزوعة السلاح أو وقف الهجمات العشوائية أو تحقيق أي تقدم في المسار السياسي لتمكينها من الضغط على هيئة تحرير الشام لحل نفسها أو محاربتها عبر عمليات عسكرية سواء محددة أو واسعة ضدها.
ورغم اضطرارها لتقديم تعهدات باتخاذ إجراءات ضد هيئة تحرير الشام في إدلب لوقف هجمات النظام على المحافظة، إلا أن أنقرة لم تجد أي صيغة في الإيفاء في هذه التعهدات في ظل عدم رغبتها في الدخول في صدام عسكري مباشر مع التنظيم، وخشية أن تكون العملية بمثابة خدمة مجانية للنظام السوري الذي رفض تقديم أي تنازلات سياسية أو حتى وقف الهجمات الجوية لكي يتمكن الجيش التركي من التحرك ضد الهيئة وكي لا يظهر أن الجيش التركي يعمل بالتوازي مع النظام ضد فصيل سوري، وغيرها من الأسباب والتعقيدات.
استحقاق غير مسبوق
ومع اشتداد هجوم النظام بشكل غير مسبوق على إدلب بغطاء روسي كامل، وخشية واسعة في أنقرة من خسارة المحافظة بشكل نهائي، وعدم رغبتها في الدخول في مواجهة واسعة مع النظام وروسيا، تجد تركيا نفسها أمام استحقاق غير مسبوق بالتراجع عن مركز إدلب، أو التعهد والتكفل بمحاربة الهيئة لسحب ذريعة الإرهاب من إدلب.
والخميس، ولأول مرة، ألمح وزير الدفاع التركي خلوصي أقار إلى أن الجيش التركي يدرس إمكانية استخدام القوة ضد هيئة تحرير الشام، وقال: “سيتم استخدام القوة في إدلب ضد من لا يحترمون وقف إطلاق النار بمن فيهم الراديكاليون” مضيفاً: “نرسل وحدات إضافية لإرساء الاستقرار ووقف إطلاق النار”.
وكانت تركيا تشتكي في السابق من أن عدد قواتها في إدلب غير كاف للسيطرة عليها بشكل كامل، ولكن مع التطورات الأخيرة، أدخل الجيش التركي أعداداً كبيرة جداً من الدبابات والعربات العسكرية والأسلحة المتنوعة والذخيرة إلى جانب آلاف الجنود وعناصر القوات الخاصة إلى داخل إدلب وهو ما يتيح لها أكثر من أي وقت مضى إجبار كل التنظيمات في داخل إدلب على الالتزام بأي اتفاق جديد لوقف إطلاق النار، وتنفيذ عملية عسكرية ضد هيئة تحرير الشام إذا قررت ذلك.
وحتى صباح السبت، أدخل الجيش التركي مزيداً من الأرتال العسكرية التي تضم كل أنواع العربات العسكرية المختلفة وأنظمة التشويش، كما أدخل أعدادا أكبر من قوات النخبة “الكوماندوز” وهو ما يعزز قدرة تركيا على الدخول في أي مواجهة مقبلة يمكن أن تكون مع النظام بشكل أوسع، أو تتحول نحو هيئة تحرير الشام داخل إدلب.
ومبدئياً، لا مؤشرات بعد على استعدادات تركية للدخول في مواجهة مع هيئة تحرير الشام، ولكن في حال نجاح جهود التوصل لاتفاق جديدة لوقف إطلاق النار في إدلب، ستكون تركيا مضطرة لتقديم تعهدات محددة وصارمة باتخاذ إجراءات سريعة ضد الهيئة، حيث ما زالت كافة التصريحات الروسية تركز على اتهام تركيا بالفشل في محاربة الإرهابيين في إدلب، وعدم الالتزام بتعهدات سوتشي.
وعلى الرغم من التوتر والصدام الذي وصلت إليه العلاقات التركية الروسية، إلا أن الاتصالات ما زالت قائمة بين الجانبين، فبعد جولتين من المباحثات في العاصمة أنقرة، جرى اتصال هاتفي بين اردوغان وبوتين، ويتوقع أن تجرى جولة جديدة في موسكو قريباً، بالتزامن مع اتصال هاتفي بين رؤساء أركان البلدين، وهو ما قد ينتج عنه اتفاق جديد في أي وقت.
وفي حال اضطرار تركيا لتقديم هكذا تعهدات، سيكون الخيار العسكري المباشر ضد الهيئة آخر الخيارات التركية، التي سيسبقها الكثير من الخيارات التي تتمحور حول العمل على حل الهيئة وفصل العناصر الأجنبية والمتشددة منها، وإلحاق العناصر “المعتدلة” في الجيش الوطني السوري، وهو الخيار الذي ما زال يشكك الكثيرون في فرص نجاحه.