اسماعيل كايا / اسطنبول
مثلت الطائرات التركية الاستطلاعية والهجومية بدون طيار نقطة تحول جوهرية في المعارك المتصاعدة بين تركيا والمعارضة السورية من جانب والنظام السوري وحلفائه من جانب آخر في شمال سوريا، ومكنت الجيش التركي من تجاوز معضلة الدفاعات الجوية الروسية وإيقاع خسائر فادحة وغير مسبوقة في صفوف قوات النظام وآلياته العسكرية المختلفة.
ولتجنب الدفاعات الجوية الروسية أيضاً، لجأت تركيا إلى استخدام الطائرات الحربية من طراز إف 16 بطريقة معقدة، حيث تضطر الطائرات إلى التحليق على ارتفاعات شاهقة بموازاة الشريط الحدودي دون الدخول إلى المجال الجوي السوري، وتنفيذ ضربات بقنابل حديثة من صناعة تركية يمكنها ضرب أهداف بعمق عشرات الكيلومترات داخل الأراضي السورية.
وعلى مدار أسابيع من المعارك في شمال سوريا، حُيد سلاح الجو التركي عن المعركة تماماً نتيجة خشية أنقرة من استهداف طائراتها من قبل الدفاعات الجوية التابعة للنظام السوري وروسيا التي تسيطر على المجال الجوي فوق إدلب ومناطق الشمال السوري بشكل عام.
ولكن عقب مقتل عشرات الجنود الأتراك في هجوم جوي للنظام السوري في إدلب، بدأت تركيا في استخدام الطائرات الهجومية بدون طيار على نطاق واسع، وتمكنت من إحداث فارق كبير في مسار المعركة بعدما تمكنت من تدمير عشرات الآليات العسكرية من دبابات وناقلات جنود وأنظمة دفاعية ومدافع بالإضافة إلى استهداف مقرات وتجمعات قوات الأسد وداعميه من المجموعات المسلحة المختلفة.
وشنت الطائرات التركية بدون طيار سلسلة ضربات جوية استهدفت مطارات عسكرية وقواعد لجيش النظام وما قالت تركيا إنه مخزن للأسلحة الكيميائية واجتماعات لقيادة قوات النظام والمجموعات الداعمة، وتجمعات للقوات في مناطق الاشتباكات، ما أوقع خسائر كبيرة جداً في صفوفهم.
وتحدثت مصادر تابعة للنظام السوري وأخرى للمعارضة عن مقتل قيادات بارزة برتب عسكرية عالية في قوات النظام في هجوم جوي استهدف اجتماعاً لهم في حلب، واستهداف مقرات حيوية للنظام، بالإضافة إلى قتل عناصر وقيادات من المليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني في ضربات جوية محددة مبنية على معلومات استخبارية في ريف إدلب وحلب وحماة.
وبثت وزارة الدفاع التركية بشكل مباشر أو من خلال وسائل الإعلام التركية عشرات مقاطع الفيديو التي تُظهر التصوير الجوي للحظات تنفيذ عدد هائل من الضربات ضد أهداف النظام السوري، وأظهرت المقاطع تدمير عشرات الدبابات والعربات العسكرية ومرابض الطائرات وقاذفات الصواريخ والمباني الحيوية وتجمعات لقوات النظام والجماعات المسلحة المساندة له.
دمرت عشرات الدبابات والعربات وأنظمة دفاعية وتجمعات لقوات النظام
وتحدثت حسابات تابعة للنظام السوري عن صعوبات بالغة باتت تواجه قوات النظام في التقدم على محاور القتال نتيجة الاستهداف المتواصل للطائرات بدون طيار للعربات العسكرية والأفراد، وقالت المعارضة إن هذه الطائرات وفرت غطاء مهماً على محاور القتال لا سيما في سراقب حيث فشل النظام حتى الآن في استعادتها رغم مشاركة المليشيات الإيرانية وحزب الله، كما ساعدت المعارضة في استعادة بعض المناطق في جبل الزاوية.
وخلال السنوات الأخيرة، حققت تركيا تطوراً نوعياً بارزاً في صناعة الطائرات الاستطلاعية والهجومية بدون طيار، ما حجز لها مقعداً متقدماً بين عدد محدود من الدول حول العالم التي تصنع هذا النوع من الطائرات التي باتت الذراع الأطول والأقوى للجيش التركي في المعارك التي يخوضها ضد التنظيمات المسلحة داخل البلاد، وفي سوريا والعراق بشكل خاص.
وبدأت تركيا باستخدام هذه الطائرات التي طورتها تدريجياً في السنوات الـ10 الأخيرة خلال الحرب على تنظيم “بي كا كا” داخل البلاد، ولاحقاً بدأت باستخدامها لأهداف استطلاعية في الحرب على التنظيم شمالي العراق، وعمليتي درع الفرات وغصن الفرات، ونبع السلام، ضد تنظيم الدولة والوحدات الكردية شمالي سوريا.
لكن ولأول مرة استخدم الجيش التركي هذه الطائرات ضد جيش نظامي -الجيش السوري- المزود بأنظمة دفاعية روسية حديثة، بالإضافة إلى وجود الأنظمة الدفاعية الروسية المتقدمة وعلى رأسها منظومتا إس 300 وإس 400 والتي لم تتمكن حتى الآن من التصدي لهذه الطائرات ووقف عملها.
وأظهر أحد المقاطع لحظة تدمير طائرة بدون طيار منظومة دفاعية روسية متقدمة من طراز “بانستر”، ويظهر بوضوح أن رادار المنظومة كان يعمل وقت استهدافها، ما دفع الكثير من الخبراء الأتراك للإشادة بأداء الطائرات وقدرتها على التخفي أمام أنظمة رادار وأنظمة دفاعية متقدمة.
وتقول تركيا إن طائراتها تتميز بقدرات كبيرة فيما يتعلق بدقة التصوير النهاري والليلي والطيران لساعات طويلة دون انقطاع، والطيران على ارتفاعات شاهقة، والتخفي عن أجهزة الرادار، والقدرة على حمل أوزان كبيرة والتزود بأنواع مختلفة من الصواريخ دقيقة التوجيه، ومهاجمة أهداف متحركة.
وبعد عقود طويلة من وقوعها تحت الابتزاز واضطرارها لـ”التوسل” لأمريكا وإسرائيل، حسب وصف مسؤولين أتراك، لبيعها طائرات بدون طيار، باتت أنقرة اليوم إحدى أهم الدول في العالم إنتاجاً لهذا النوع من الطائرات، ووصلت مرحلة تصديرها إلى العديد من الدول حول العالم.
هذا التحول جاء في إطار خطة إستراتيجية واسعة يقودها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لتعزيز الصناعات الدفاعية التركية، ورفع نسبة اعتماد الجيش التركي على الصناعات الدفاعية الوطنية وتقليل الاعتماد على الخارج. ووفق تصريحات مختلفة لأردوغان، فإن الصناعات الدفاعية الوطنية باتت تغطي أكثر من 65٪ من احتياجات الجيش التركي، حيث يهدف إلى رفع هذه النسبة إلى أكثر من 90٪ بحلول عام 2023.
وتعرضت تركيا لابتزاز كبير جداً من قبل أمريكا وإسرائيل على مدى سنوات طويلة، وبينما رفضت واشنطن أكثر من مرة بيعها طائرات بدون طيار بحجة عدم موافقة الكونغرس، ربطت إسرائيل عملية بيع طائرات جديدة بدون طيار أو إصلاح الطائرات القديمة التي جرى شراؤها سابقاً، بتنازلات سياسية حادة إلى جانب الحديث عن اختراق إسرائيل للأنشطة التي تقوم بها هذه الطائرات.
وحديثاً، أعلنت شركة “بايكار” التي تصنع هذا النوع من الطائرات ويقودها صهر الرئيس التركي “سلجوق بيرقدار” أنها انتهت من اختبار أحدث نسخة لها وهي طائرة “أقنجي” التي يمكنها التحليق حتى ارتفاع 40 ألف قدم، والطيران حتى 24 ساعة متواصلة، وحمل أسلحة بوزن ألف و350 كيلوغراما، ومزودة بأدوات متطورة عديدة، مثل منصة دعم إلكتروني، وأنظمة مراسلة عبر الأقمار الصناعية، ورادارات جوية، ورادارات تحديد العوائق، ويبلغ عرض أجنحتها 20 مترا، وتتميّز بقدرتها على الطي ومزودة بأحدث الأنظمة والأسلحة المطورة محليا.
وبعد أن كان الجيش التركي يمتلك عدداً قليلاً من الطائرات القديمة، تسلم حتى الآن قرابة 60 طائرة من الصناعات الدفاعية، وتقول هيئات دولية متخصصة بالصناعات الدفاعية إن الطائرات التركية بدون طيار تتمتع بامتيازات عالية، كما يؤكد خبراء أن الطائرة التركية تفوقت على نظيرتها الإسرائيلية التي تعتبر من الأفضل في العالم، وباتت تركيا واحدة من 6 دول في العالم فقط تصنع الطائرات بدون طيار، قبل أن تنتقل إلى مرحلة تصديرها إلى الخارج.
وكتب مختصون أتراك أن الأداء الأخير لهذه الطائرات ضد النظام السوري سوف يرفع أسهمها في سوق الصناعات الدفاعية في العالم وسيساهم في تطويرها وتصديرها لمزيد من الدول حول العالم بعد أن تم بيعها حتى الآن إلى قطر وأوكرانيا وتجري مفاوضات مع دول أخرى لشرائها.