اسماعيل كايا / اسطنبول
عقب أسابيع من التصعيد العسكري الذي وصل إلى مرحل خطيرة وغير مسبوقة في محافظة إدلب شمالي سوريا، والذي كاد يؤدي إلى مواجهة عسكرية روسية – تركية مباشرة، توصلت أنقرة وموسكو في الخامس من آذار/مارس الجاري إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في المحافظة، ساهم في خفض التصعيد وإبعاد شبح المواجهة العسكرية الأكبر في المرحلة الحالية كحدٍ أدنى.
لكن ما جرى في موسكو، يمكن اعتباره اتفاقاً على إنقاذ العلاقات التركية – الروسية ومنع انجرارها إلى مواجهة عسكرية خطيرة لا يريدها كلا البلدين، أكثر منه اتفاقاً تفصيلاً حول مستقبل إدلب، وهو ما يفسر عدم الاتفاق على أي تفاصيل تتعلق بخطوط الاشتباك وأوضاع النازحين ومستقبل «هيئة تحرير الشام» وغيرها الكثير من التفاصيل المهمة. فاتفاق موسكو الذي رسخ وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار في المحافظة، تلته مباحثات تفصيلية في العاصمة أنقرة استمرت لعدة أيام بين العسكريين من البلدين، وانحصرت هذه المباحثات بدرجة أساسية بتثبيت خطوط الاشتباك الحالية والتفاصيل الإجرائية لتسيير الدوريات التركية الروسية في المنطقة العازلة على الطريق الدولي ام 4.
كل ما سبق لا يمكن اعتباره على الإطلاق وقف إطلاق ثابتاً أو اتفاقاً نهائياً حول مستقبل الأوضاع في محافظة إدلب، وتبقى الأمور قابلة للانفجار في أي وقت في ظل استمرار النظام والمليشيات الإيرانية بحشد قواتها في محيط إدلب، ومواصلة الجيش التركي إرسال مزيد من التعزيزات إلى داخل المحافظة، على أن يبقى كل ذلك مرهوناً بمدى نجاح الجانبين التركي والروسي في التوصل لاتفاق نهائي حول مستقبل الأوضاع في إدلب.
مستقبل المواجهة
فمنذ انهيار وقف إطلاق النار السابق، واندلاع المواجهة العسكرية الأخيرة، جرت مباحثات على المستويات كافة بين تركيا وروسيا حول مستقبل المحافظة، لكن الطرفين فشلا مراراً وتكراراً في التوصل لهذا الاتفاق في ظل التباعد الكبير جداً في رؤية الطرفين لهذا الحل. فبينما ترى روسيا أن «النظام السوري له كامل الحق في السيطرة على كافة الأراضي السورية»، وبالتالي تدعم موسكو سيطرة النظام على كامل إدلب مهما كلف الثمن، تريد تركيا تثبيت إدلب أو ما تبقى منها كمنطقة آمنة تتمتع بوقف إطلاق نار ثابت ومتين على المدى المتوسط إلى حين «التوصل إلى حل سياسي نهائي للأزمة في عموم سوريا».
وحتى لا يكون الاتفاق الحالي مجرد نسخة مكررة من الاتفاقيات السابقة التي سرعان ما انهارت، تعمل تركيا من أجل اتفاق ثابت ومتين يستمر لفترة أطول ويبعد شبح الحرب مجدداً عن إدلب، كما أن روسيا تريد اتفاقاً يزيل إدلب من أجندتها لكي تتفرغ للمرحلة المقبلة من إعادة تأهيل النظام والإعلان عن انتهاء العمليات العسكرية، وبالتالي فإن البلدين لهما مصلحة كبيرة في رسم الوضع النهائي لإدلب، لكن رؤى البلدين ما زالت متباعدة كثيراً.
وطلبت تركيا مراراً من روسيا اعتبار منطقة خفض التصعيد الأخيرة في إدلب ومحيطها منطقة آمنة تحت السيطرة التركية تحوي المدنيين والمعارضين السياسيين والعسكريين للنظام السوري والذين جرى تهجيرهم من مناطق سوريا كافة إلى إدلب، وذلك إلى حين التوصل إلى حل سياسي نهائي تنسحب بموجبه القوات التركية وتعود من خلاله كافة مناطق سوريا لحكومة جديدة ونظام سياسي يقبل به الكل السوري.
لكن روسيا رفضت هذا العرض مراراً، وكانت تصر على السيطرة على كامل إدلب، ولاحقاً وعقب إبداء تركيا جدية كبيرة في منع ذلك وصولاً لإدخال قوات كبيرة جداً لإدلب والدخول في مواجهة عسكرية مع النظام، بدأت روسيا بتقديم عروض لمنطقة آمنة محدودة جداً.
التصريحات الرسمية التركية لا سيما من الرئيس أردوغان، أشارت إلى أن الهدف التركي بمنطقة آمنة بعمق 30 كيلومتراً تشمل وسط إدلب المدينة، وتكون ثابتة على المدى البعيد، لكن التسريبات تقول إن روسيا عرضت فقط منطقة آمنة بعمق 5 كيلومترات ولاحقاً 7 وصولاً إلى 10 كيلومترات فقط، وهو ما زالت ترفضه تركيا وتؤكد أنها مساحة غير كافية لاحتواء ملايين المهجرين في إدلب وعلى الحدود التركية. ومع خريطة السيطرة الجديدة للنظام السوري والتي باتت بمثابة أمراً واقعاً لم يستطع اتفاق موسكو الأخير تغييره رغم الشروط التركية السابقة بانسحاب النظام إلى حدود سوتشي، فإن الحديث لم يعد يتعلق بحدود نقاط المراقبة السابقة وإنما بالحدود الجديدة للسيطرة، والتي سعت تركيا لاحقاً إلى تثبيتها كمنطقة آمنة بضمانات على المدى البعيد.
لكن محاولات روسيا والنظام لتقليص هذه المنطقة تواصلت، ومع الاتفاق التفصيلي على المنطقة العازلة الجديدة على الطريق الدولي ام 4، والحديث عن رقابة روسية على عمق 6 كيلومترات على طول جنوب الطريق الدولي، مقابل 6 كيلومترات تحت السيطرة التركية شمال الطريق، فإن مناطق جنوب الطريق الدولي تبدو قد خرجت من خريطة المنطقة الآمنة المستقبلية التي يمكن الاتفاق عليها، وبالتالي فإن كل ما هو جنوب الطريق من الـ6 كيلومترات في المنطقة العازلة، وقرابة 50 قرية وبلدة في جبل الزاوية، قد تخرج من الحسابات، وبالتالي يبقى الحديث عن المنطقة المتبقية من الحدود التركية وحتى الطريق الدولي ام 4.
«ضمانات مستقبلية»
وفي هذا الإطار، يبدو أن تركيا يهمها الضمانات المستقبلية لإبقاء المنطقة الآمنة بدون خروقات عسكرية، أكثر ما يهمها تفاصيل المساحة المتعلقة بهذه المنطقة، ويعتقد أنها ربما تقبل بهذه المنطقة في حال تلقت ضمانات سياسية وعسكرية قوية بأن ما تبقى من إدلب سوف يتم الحفاظ عليه كمنطقة آمنة إلى حين التوصل إلى حل سياسي نهائي للأزمة في سوريا. ومن أجل التوصل إلى هكذا اتفاق، يبدو أن تركيا مضطرة للتعامل مع مطلبين روسيين أساسيين يتعلقان بالطريق الدولي وهيئة تحرير الشام، فالمطلب الأول بدأ يتحقق من خلال البدء بتسيير الدوريات المشتركة وفتح الطريق الدولي وهو أمر أعاقت أنقرة تنفيذه منذ نحو عامين، بينما الثاني يبدو أصعب على تركيا التي ترفض الدخول في مواجهة مكلفة مع الهيئة قبيل تلقي ضمانات قوية حول مستقبل المحافظة.
ومع إنجاز بعض التفاهمات المتعلقة بالطريق الدولي، يتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة تفاهمات أخرى تتعلق ربما بإجراءات تركية حقيقية تجاه الهيئة، مقابل ضمانات سياسية بإبقاء ما تبقى من إدلب من الحدود التركية وحتى الطريق الدولي منطقة آمنة تحت سيطرة تركية مباشرة لحين الوصول إلى حل سياسي نهائي، وهو ما ستترتب عليه أيضاً إعادة تموضع نقاط المراقبة التركية المحاصرة داخل مناطق النظام، وإعادة نشرها على الحدود الجديدة التي ربما ينجح الطرفان بالتوصل إليها قريباً، على أن يبقى احتمال الفشل وعودة شبح المواجهة العسكرية مجدداً احتمالاً قائماً لا يمكن استبعاده.