يسود اعتقاد عام في أوساط صنع القرار بالعاصمة التركية أنقرة أن السعودية والإمارات تقفان خلف «الهجوم المنظم» الذي تعرضت له الليرة التركية قبل أيام وأدى إلى هبوطها إلى مستويات قياسية أمام الدولار، وذلك حسب ما أكد أكثر من مصدر تركي مُقرب من الدوائر الرسمية لـ «القدس العربي»، كاشفين عن تفاصيل جديدة تتعلق بالطريقة المعقدة التي تتم فيها العملية. وأوضحت المصادر أنه إلى جانب المعلومات التي توفرها الجهات الأمنية والسياسية الرسمية، فإن هناك الكثير من المعطيات المنطقية التي تشير إلى أن دولاً غنية تقف خلف «الهجوم المنظم» على الليرة التركية من خلال مؤسسات مالية كبيرة تتخذ من العاصمة البريطانية لندن مقراً لها.
«هجمات خارجية منظمة»
والأربعاء، هوت الليرة التركية إلى أدنى مستوى تاريخي لها على الإطلاق، وبلغت 7.26 ليرة لكل دولار أمريكي، في ظل الصعوبات التي يمر بها الاقتصاد التركي المتوقف بفعل أزمة كورونا، وسط اتهامات رسمية بوجود «هجمات خارجية منظمة»، ومساع لأطراف مختلفة لإجبار تركيا على التوجه إلى طلب مساعدة البنك الدولي، وهو ما يرفضه الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بقوة، ويعتبر أن «لوبي الفائدة» يسعى للعودة إلى التحكم بالبلاد بعدما قام البنك المركزي بتخفيض نسبة الفائدة خلال الأشهر الماضية من 24٪ إلى 8.75٪.
وتقول المصادر إن الهجوم الذي تعرضت له الليرة التركية قبل أيام يعتبر الخامس على التوالي خلال السنوات الأخيرة بنفس الطريقة، معتبرة أن «هذا الأمر يفسر أن هناك جهات خارجية (دول) تحاول توجيه ضربة لتركيا من خلال الاقتصاد بعدما فشلت في مواجهة تركيا سياسياً أو وعسكرياً في الكثر من الملفات الخلافية».
وتلفت المصادر إلى أن الهجوم على الليرة دائماً ما يجري في الفترات السياسية والاقتصادية الحساسة التي تمر فيها تركيا، وهي الأوقات التي يكون فيها الاقتصاد معرضاً لهزات أكبر، ما يساعد في زيادة الضرر الذي تلحقه هذه الهجمات على الليرة التركية، بالإضافة إلى أن تزامن الهجمات مع وجود هزات سياسية واقتصادية لأسباب أخرى يساهم في إبعاد الشبهات عن الجهات المنفذة ويساهم في نفي نظرية «الهجوم المنظم».
و«الهجمات» الخمس المقصودة هي: التراجع الأخير في سعر صرف الليرة التركية قبل أيام بالتزامن مع الضغوط الاقتصادية بسبب أزمة كورونا، والتراجع الذي حصل في أكتوبر/تشرين الأول 2019 عندما تصاعد الخلاف الأمريكي التركي حول التدخل العسكري التركي شرقي نهر الفرات شمالي سوريا، والتراجع الذي حصل في آذار/مارس 2019 إبان الانتخابات المحلية، والتراجع الذي شهدته الليرة في آب/أغسطس 2018 إبان أزمة اعتقال تركيا الراهب الأمريكي برونسون، والهجوم الذي سبق الانتخابات الرئاسية والبرلمانية منتصف عام 2018. وفي كل أزمة من هذه الأزمات فقدت الليرة التركية جزءاً كبيراً من قيمتها.
أحد المصادر شدد على أن الاقتصاد التركي عانى من مشاكل في كل تلك الفترات الخمس لأسباب سياسية واقتصادية، ولكنه تعرض في نفس الوقت لـ «هجمات منظمة ومؤامرات خارجية»، مشيراً إلى أنه جرى اثبات أن ثلاثاً على الأقل من هذه الهجمات أدارتها مؤسسات مالية في لندن، لافتاً إلى أن الجهات المنفذة استفادت على الدوام من القانون البريطاني الذي يوفر سرية تامة ويرفض الكشف عن الأطراف التي تقوم بالعمليات المالية.
كما أكد أحد المصادر أن الهجمات تتم من خلال عمليات مالية تكبد القائمين عليها خسائر فادحة، وعلى الرغم أنها تتسبب بضرر بالغ لليرة التركية وتؤدي إلى هبوطها بشكل حاد، إلا أنها تكبد القائمين عليها لاحقاً خسائر كبيرة، معتبراً أن ذلك يعني أن «هذه ليست عمليات اقتصادية أو خسائر عادية بل هي عملية منظمة تقف خلفها جهات قادرة على تحمل خسائر فادحة وأموال طائلة في سبيل إلحاق الضرر بالعملة التركية»، مشدداً على أن «هذا الأمر إلى جانب كثير من المعطيات الأخرى تؤكد وقوف دول غنية خلف هذه العمليات أبزرها السعودية والإمارات».
وتقوم الهجمات على فكرة القيام بعمليات شراء واسعة للعملات الصعبة من السوق التركية، ما يقلل من حجم الاحتياطي النقدي في البنوك وإعطاء انطباع عام بوجود هروب كبير من اقتناء الليرة التركية، وهو ما يؤدي بها إلى هبوط قيمتها بشكل حاد في السوق، لكن الجديد أن وكالة الأناضول الرسمية نقلت عن مصادر مصرفية تأكيدها أن بعض المؤسسات المالية في لندن قامت هذه المرة بشراء العملات الصعبة من السوق التركية «دون أن يكون لديها سيولة من الليرة التركية مقابل العملات الصعبة التي اشترتها».
وذكرت المصادر المصرفية التركية أن «المؤسسات المالية أبدت تقصيراً بإيفاء التزاماتها رغم تمديد البنك المركزي إغلاق نظام الحوالات المالية إلكترونياً»، وقالت إن «السلطات التركية تنبهت لهذه الهجمات وبدأت إجراءات قانونية ضد تلك المؤسسات».
وعقب ذلك، أعلنت هيئة التنظيم والرقابة المصرفية التركية فرض حظر على معاملات 3 بنوك أجنبية مع البنوك التركية، بسبب عدم الوفاء بالتزاماتها تجاه البنوك المحلية، وشددت على أنها ملتزمة باتخاذ جميع أنواع القرارات والإجراءات اللازمة لضمان الأداء الفعال لنظام الائتمان، ومنع جميع أنواع الممارسات التي تتسبب في أضرار حقوق المدخرين وفي الاقتصاد. والبنوك الثلاثة هي «بي إن بي باريبا»، و«سيتي بنك» ، و«يو بي إس».، وتقول أوساط تركية إن «السعودية والإمارات تمارسان نفوذهما وإغراءاتهما المالية داخل هذه البنوك للقيام بعمليات مالية تؤدي إلى إلحاق الضرر بالليرة التركية»، مستغلة أي اضطرابات سياسية أو اقتصادية كانت تمر بها البلاد.
وما زاد من الشكوك بوجود هجوم منظم، أن عمليات الشراء الكبيرة للنقد الأجنبي من البنوك التركية للإضرار بالليرة التركية تزامنت تماماً مع مؤتمر عقده وزير الخزانة والمالية التركي برات البيرق مع مستثمرين دوليين مهمين كان يهدف من خلاله إلى زيادة ثقة المستثمرين بالاقتصاد التركي وتبديد مخاوفهم من إمكانية حياد السلطات التركية عن سياسات السوق الحرة خلال الفترة المقبلة، لكن الهجمات اضطرت الحكومة إلى حظر التعاملات على بعض البنوك.
ورسمياً، تتجنب تركيا توجيه الاتهام للسعودية والإمارات بالمسؤولية عن هذه الهجمات وغيرها بشكل صريح، لكن كبار المسؤولين الأتراك ألمحوا في أكثر من مناسبة إلى مسؤولية البلدين عن محاولات لاستهداف تركيا سياسياً واقتصادياً، وفي أحد خطاباته عقب محاولة الانقلاب، قال اردوغان: «نحن نعلم جيداً من فرح بمحاولة الانقلاب في تركيا»، عندما كان يتحدث عن ضرورة تعاون دول الخليج ونبذها الخلافات.
وفي مقابلة تلفزيونية، إبان «الهجوم» على الليرة منتصف عام 2018، قال وزير الخارجية مولود جاوش أوغلو: «هناك محاولات لحشر تركيا بالزاوية من خلال اللعب بأسعار الصرف، يوجد داخل هذه اللعبة عدد من الدول حتى بينهما دولة أو دولتان مسلمتان»، رافضاً ذكر أسماء هذه الدول مكتفياً بالقول إنها «دولة كبيرة» رداً على سؤال إن كانت السعودية هي المقصودة. وعندما سأله المذيع ما إن كان يقصد البحرين أم الإمارات أيضاً، قال: «البحرين دولة صغيرة وصديقة ولا تدخل في هكذا مؤامرات كبيرة».
وحسب ما رصدت «القدس العربي»، وكما حصل في مرات سابقة، تزامن «الهجوم» على الليرة هذه المرة أيضاً مع حملات إعلامية سعودية رسمية تهدد تركيا وتلوح لها بورقة الاقتصاد، وحملات موازية على وسائل التواصل الاجتماعي يقودها ما يعرف بـ»الذباب الإلكتروني»، التي تدعو إلى مقاطعة السياحة والمنتجات التركية وحث الشعب السعودي على مساعدة الحكومة في «معاقبة تركيا اقتصادياً».
حملات إعلامية
وفي مؤشر آخر على الاعتقاد التركي الرسمي بأن السعودية والإمارات تقفان خلف الهجوم الأخير على الليرة التركية، رفعت وسائل الإعلام التركية الرسمية والخاصة من حدة خطابها ضد السعودية في الأيام الأخيرة ووصلت إلى «مستوى غير مسبوق»، في خطوة أكدت مصادر خاصة لـ «القدس العربي» أنها جاءت نتيجة لتعليمات رسمية وصلت إلى الإعلام الرسمي، لا سيما الناطق باللغات الأجنبية. والشهر الماضي، حظرت تركيا مجموعة مواقع إعلامية رسمية أو تمولها السعودية والإمارات، رداً على قرار سعودي سابق بحظر مواقع مؤسسات إعلامية تركية في السعودية، في أحدث جولة من الخلاف المتصاعد بين تركيا والسعودية منذ جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، وبالتزامن مع زيادة الغضب السعودي الإماراتي من نجاح الدعم التركي لحكومة الوفاق الليبية التي ألحقت في الأسابيع الأخيرة هزائم متلاحقة بالجنرال خليفة حفتر المدعومة من أبو ظبي والرياض.