للرئيس الأمريكي دونالد ترامب أكثر من 80 مليون متابع على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، وتغريداته ليست تدوينات أو تعليقات أو تعبيرات عن رأي بأي معنى مألوف لهذه المفردات؛ بل هي انعكاس يومي مباشر ومفتوح وصريح، وأحياناً فظّ وجلف وبذيء، لذهنية الرجل الأقوى في العالم: سيّد البيت الأبيض، حيث مركز قرار القوّة الكونية الأعظم. منعطفات عديدة ذات طابع فاصل ونوعي وحاسم، في السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة، اتخذت هيئة تغريدات قبيل تحوّلها إلى قرارات فعلية؛ وحدث مراراً أنّ رجال الرئيس أنفسهم فوجئوا بها، ووقع بعضهم في حيص بيص إزاء تفسيرها أو احتواء مضاعفاتها أو تهذيب خشونتها.
ثمة، في غالبية تغريدات ترامب، الكثير من الديماغوجيا الرقمية، والتضليل المنظّم، والبثّ الشعبوي، وتصفيات الحساب، و… الكذب والتزييف وليّ الحقائق؛ وهذه السمة الأخيرة هي التي طفحت بالكيل لدى إدارة «تويتر»، فقررت أخيراً كسر تسامحها الطويل إزاء نشاط الرئيس الأمريكي على موقعها. وهكذا، في سابقة هي الأولى، وضع الموقع إشارة تحت إحدى تغريدات ترامب (يؤكد فيها أنّ الاقتراع عبر البريد ينطوي على تزوير واحتيال كبير)؛ تطالب المتابعين بتوخّي الحقائق حول هذا الأمر، وتحيل عند الضغط عليها إلى موادّ إعلامية تفند مزاعم ترامب. ردّ الرئيس لم يتأخر، فبدأ من تغريدة مضادة قالت إنّ «تويتر يتدخل الآن في انتخابات 2020 الرئاسية»، وأنه يستند إلى أخبار مضللة من شبكة «سي إن إن» وصحيفة «واشنطن بوست»، كما أنّ الموقع «يخنق حرية التعبير تماماً»، وأنه كرئيس للولايات المتحدة لن يسمح بذلك».
التغريدة لم تشفِ غليل ترامب، بالطبع، ولهذا سرّبت أوساط البيت الأبيض معلومات عن نيّة الرئيس توقيع أمر تنفيذي يقلّص، أو يلغي تماماً، الحصانة القانونية التي كانت تتمتع بها مواقع التواصل الاجتماعي الكبرى، «تويتر» و«فيسبوك» و«يوتيوب»، إزاء تغريدات وتدوينات وفيديوهات يمكن أن تُلحق أشكال الأذى المختلفة بأشخاص أو هيئات أو مؤسسات (القسم 230 من القانون الناظم لعمل هذه المواقع). كذلك يمنح القانون «هيئة التجارة الفدرالية» حقّ النظر في الشكاوى ذات الصلة بالتحيّز السياسي للمواقع، وما إذا كانت المضامين التي تنشرها مطابقة لمبدأ الحياد، كما تطالب الوكالات الفدرالية بمراجعة مصاريفها على الدعاية عبر المواقع المعنية. وحتى ساعة تحرير هذه السطور لم يكن ترامب قد وقّع الأمر التنفيذي، لكنّ التفاصيل أعلاه، وسواها، تسرّبت منذ يوم أمس إلى وسائل إعلام أمريكية عديدة، ونشرتها «واشنطن بوست».
نزعة العقاب واضحة في حيثيات مشروع القرار، واستهداف حرّية التعبير لا تخفى أيضاً، ولكن هل تدشن هذه الخطوة عتبة الطلاق بين إيديولوجية التضليل الديماغوجية الرقمية، أو الـ Trumpology، حسب تعبير الأكاديمي النمساوي كريستيان فوكس، من جهة؛ ومواقع التواصل الاجتماعي عموماً، و«تويتر» خصوصاً، من جهة أخرى؟ ليس بعد، أغلب الظنّ، لسبب جوهري أوّل هو أنّ ترامب بحاجة إلى «تويتر» أكثر من حاجة الموقع إلى تغريداته، في جانب أوّل؛ وكذلك لأنّ الرئيس الأمريكي يمكن أن يعاقب، ويحقد وينتقم فعلياً، ولكنه في ذروة الموسم الانتخابي حيث تتناهبه أزمات متعاقبة: ذروة جائحة كورونا، ورقم الـ100,000 وفاة جرّاء الفيروس حتى الساعة، والتقرير القاتل الذي صدر عن جامعة كولومبيا مؤخراً وأفاد بأنّ أرواح 36 ألف أمريكي كان يمكن توفيرها لو أبكرت السلطات أسبوعاً واحداً في تطبيق إجراءات الحجر والتباعد الاجتماعي، كما قدّرت أنّ قرابة 83٪ من الوفيات كان يمكن تجنّبها لو طُبّقت تلك الإجراءات قبل أسبوعين.
أثار ترامب شقاقاً بين زوكربيرغ صاحب «فيسبوك» الذي ساجل بأنّ المنصات الرقمية لا ينبغي لها أن تتصرّف كـ»محكّم للحقيقة»؛ ودورسي صاحب «تويتر»، الذي ردّ بأنّ موقعه سوف يواصل الإشارة إلى المعلومات غير الصحيحة
هذه، في كلّ حال، ليست المرّة الأولى التي تشهد تنمّر ترامب ضدّ مواقع التواصل الاجتماعي، رغم أنه في الماضى اكتفى بالتهديد والتلويح باتخاذ إجراءات مضادة؛ وكان أوج هذا السلوك انعقاد «قمّة الوسائل الاجتماعية» التي احتضنها البيت الأبيض في تموز (يوليو) الماضي، وحشد لها عدداً من أنصار الرئيس في الحزب الجمهوري والكونغرس والصحافة. وليام بار، وزير العدل، لوّح من جانبه باحتمال أن تعيد الحكومة النظر في قواعد العمل السابقة مع شركات «سيليكون فالي»، التي ضمّت «غوغل» أيضاً في حينه؛ معتبراً أنها صارت «مؤسسات عمالقة» ولم يعد مناسباً التعامل معها كمشاريع تأسيسية. واليوم أثار ترامب شقاقاً بين مارك زوكربيرغ صاحب «فيسبوك» الذي ساجل بأنّ المنصات الرقمية لا ينبغي لها أن تتصرّف كـ»محكّم للحقيقة في كلّ ما يقوله الناس»؛ وجاك دورسي صاحب «تويتر»، الذي ردّ بأنّ موقعه سوف يواصل الإشارة إلى المعلومات غير الصحيحة والإشكالية، و«هذا لا يجعل منّا محكّمين للحقيقة».
لكنّ حكاية ترامب مع الديماغوجيا الرقمية ليست أحادية الجانب طرفها الوحيد هو كاتب التغريدات، بل هي جدلية وثنائية لأنها تقتضي وجود الطرف الثاني وتفاعل أكثر من 70 مليون متابع (بافتراض أنّ مليوناً من الـ80 مليون يتابعون الرئيس الأمريكي ليس حباً به بل اهتماماً بموقعه)؛ وتشترط طرازاً من التعاقد بين الطرفين، قوامه التعاطف أو الانحياز أو التأييد أو الإيمان، أو خليط هذه الاستجابات وسواها. وثمة إجماع لدى دارسي ترامب على «تويتر»، مفاده أنّ شخصيته تتلبس قناع المنقذ الساحر الذي سيعيد إلى أمريكا عظمتها، ولا تتهرّب من إظهار الأنا المتضخمة، والشخصية النرجسية، والمدافع الشرس عن نفسه وعن أنصاره؛ وهذه معطيات يمكن أن تتكيء على مرحلتين في تغريدات ترامب: ما قبل 18 تموز (يوليو) 2016، يوم انعقاد مؤتمر الحزب الجمهوري وتسمية ترامب؛ وما بعده، وصولاً إلى 21 كانون الثاني (يناير) 2017، يوم تنصيبه رئيساً. على مستوى المتابعين، في نهاية أيار (مايو) 2017 كان العدد قرابة 31 مليوناً، ثمّ ازداد بمعدّل 2,3 مليون متابع خلال الأشهر القليلة اللاحقة، مع ملاحظة وجود 4 ملايين متابع لا يضعون صوراُ فوتوغرافية بل مجرد رمز بصري (egg avatars)، الأمر الذي يعني أنهم أصحاب حسابات زائفة.
ومن حيث المحتوى تدور تغريدات ترامب حول تعظيم دوره في حياة الأمّة، وتضخيم منجزاته بالمقارنة حتى مع كبار رجالات الحزب الجمهوري المحدثين (رونالد ريغان بصفة خاصة)، وإبراز الرموز الوطنية الأمريكية (العَلَم، والتمثيلات الغرافيكية لألوانه البيضاء والحمراء والزرقاء)، واللعب على المخاوف من ثنائية الصديق/ العدو (الموقف من الحلف الأطلسي مثلاً)، والتهجم الشخصي على الخصوم في مستوى الأفراد والإرث (باراك أوباما، وقانون الرعاية الصحية)، وتفخيم الحلفاء والأنصار والمساعدين (بوريس جونسون، أنصار التفوّق العرقي الأبيض، ابنته إيفانكا)، وتأثيم وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية (تحت تصنيف «الأنباء الزائفة)، وتمجيد التيارات المسيحية الإنجيلية، ومغازلة المجموعات الشعبوية والعنصرية والرهابية… وعن البًعد الإيديولوجي الرأسمالي في تغريدات ترامب، يشير كريستيان فوكس، في كتابه الرائد «الديماغوجيّ الرقمي: الرأسمالية التسلطية في عصر ترامب وتويتر»، إلى أنّ الرئيس الأمريكي يرى الرأسمالية في مرآة «أزمة قومية» وليس طبقية؛ ويعتبر أنّ اتفاقات تجارية من نوع «نافتا» ليست سوى إواليات لاستغلال الولايات المتحدة وتدمير وظائف الأمريكيين: «إنه لا يقدّم الاقتصاد الرأسمالي بوصفه مرتكزاً على التناقض الطبقي، بل على النزاعات الاقتصادية التجارية بين الأمم. وهو في هذا لا يهمل ميدان الإنتاج فقط، ولا يتجاهل أنّ ميدان تبادل البضاعة مسؤول عن المشكلات الاجتماعية فحسب، بل يناقش الاقتصاد بمصطلح أمم تتنافس في ما بينها، ليس أكثر».
ولن يجد المرء كبير عناء في تلمّس أصداء هذه الأفكار، وسواها كثير، لدى الملايين من متابعي ترامب وأنصاره؛ حيث الزواج الناجح حتى الساعة بين الديماغوجيا والفضاء الرقمي لا ينتظر، أغلب الظنّ، أيّ طلاق وشيك.
صبحي حديدي ، كاتب وباحث سوري يقيم في باريس